فوائد مُختارة من " فتح الباري شرح صحيح البخاري" لأحمد بن حجر العسقلاني-رحمه الله-
"
"
كتابـُ بدء الوحي
الحديث الأول "حديث إنما الأعمال بالنيّـات "
(1) ذكرَ المُصنّـف قوله تعالى {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من
بعده ..} ثم حديث إنما الأعمال بالنيات ، نقل ابن بطال عن أبي عبد الله بن النجّار
قال:التبويب يتعلق بالآية والحديث معا لأن الله تعالى أوحى إلى الأنبياء ثم إلى
محمد أن الأعمال بالنيات لقوله {وما أمروا إلّا ليعبدوا الله مُخلصين له الدين}
(2) إنما الأعمال بالنيات ، قال أبو عبد الله ليس في أخبار النبيّ-صلى الله عليْه
وسلّم- شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث ، واتفق جمع من أهل العلم
أنّه ثلث الإسلام ، ومنهم من قال رُبعه واختلفوا في تعيين الباقي .
(3) إنما الأعمال بالنيات ، قال الحربي:كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما
تتنوع الأعمال كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعُوده أو الاتقاء
لوعِيده،ووقع في معظم الروايات بإفراد النية ، ووجههُ أنّ محلّ النية القلب وهو
متّحد فناسب إفرادها بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر.
(4) إنما الأعمال بالنيات ، التقدير الأعمال الصادرة من المكلفين وعلى هذا هل
تخرج أعمال الكفار ؟ الظاهر الإخراج ، لأن المُراد بالأعمال أعمال العبادة ، وهي
لا تصح من الكافر وإن كان مخاطبا بها معاقبا على تركها.
(5) اختلف الفقهاء هل النية ركن أو شرط؟ والمرجح أنّ إيجادها ذكرا في أول
العمل ركن ، واستصحابها حُـكما بمعنى أن لا يأت بمنافٍ شرعا شرط .
(6) إنما الأعمال بالنيات ، تقديره لا عمل إلا بالنية ، فليس المُراد نفي ذاتِ
العمل لأنّه قد يوجد بغير نية ، بل المُراد نفي أحكامها كالصحة والكمال ،لكن
الحمل على نفي الصحة أوْلى لأنه أشبهُ بنفي الشيء نفسه ، ولأن اللفظ دل على
نفي الذات بالتصريح وعلى نفي الصفات بالتبع فلما منع الدليل نفي الذات بقيت
دلالته على نفي الصفات مستمرة .
(7) الراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفكُّـ عن العدد المعين ، كالمسافر
مثلا ليس له أن يقصر إلا بنية القصر ، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين لأن ذلك هو
مقتضى القصر .
(8) وإنما لكل امرء ما نوى ،إذا لم ينوي الإنسان شيئا مخصوصا لكن كانت
هناك نيّة عامة تشملهُ فهذا مما اختُـلف فيه ، وقد يحصل غير المنوي
لمدرك آخر كمن دخل المسجد فصلى الفرض أو الراتبة فإنه يحصل له تحية
المسجد نواها أو لم ينوها لأن القصد بالتحية شغل البقعة وقد حصل ، وهذا
بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة فعلى الراجح لا يحصل له غسل الجمعة
لأنه ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيف فلا بد فيه من القصد إليه.
(9) وإنما لكل امرىء ما نوى ، قال ابن السمعاني :أفادت أن الأعمال الخارجة
عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا نوى بها فاعلها القُربة ، كالأكل إذا نوى به القوة
على الطاعة ، وقال غيره:أفادت أن النيابة لا تدخل في النية فإن ذلك هو الأصل .
(10) وإنما لكل امرئ ما نوى ، أفاد أن النيّة إنما تُشترط في العبادة التي لا تتميز
بنفسها ، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضِع له كالأذكار
لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة وهذا بالنظر إلى أصل الوضع.
(11) هل تلزم النية في الترك ؟ والتحقيق أن الترك المُجرّد لا ثواب فيه وإنما
يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس ،فمن لم تخطر المعصية بباله أصلا
ليست كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفا من الله تعالى .
الحديث الثاني "كيفية الوحي"
(12) مثل صلصة الجرس ،الصلصلة: وقوع الحديد بعضهُ على بعض .
قيل كيف يُشبّه ما فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟
والجواب:أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبَّه بالمشبه به في الصفات
كلها ، بل ولا في أخص وصف له ،والحاصل أن الصوت له جهتان :جهة
قوة وجهة طنين ، فمن حيث القوة وقع التشبيه به ومن حيث الطرب وقع
التنفير عنه ، وعُللَّ بكونهِ مزمار الشيطان.
(13) وهو أشد علي ، قال شيخ الإسلام البلقيني :سبب ذلك أن الكلام العظيم له
مُقدّمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به ، وقال بعضهم: وإنما كان شديدا عليه ليسْتجمعَ
قلبه فيكون أوعى لما سمع.
(14) يتمثل لي الملك رجلا ،الحقُّ أنّ تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت
رجلاً بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يُخاطبه ، والظاهر أن القدر
الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط .
الحديث الثالث "كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله"
(15) فيتحنث ، هي بمعنى يتحنف ، أي: يتبع الحنفية وهي دين إبراهيم .
(16) حتى جاءه الحق، سُمّي حقا لأنّـه وحيٌ من الله تعالى ،ورأى حينئذ جناحان
من ياقوت يخطتفان البصر ،وقد ثبت أن النبي-صلى الله عليه وسلّم- رأى جبريل
على صورته التي خلقه الله عليها مرتين ،وبيّن أحمد أن الأولى كانت عند سؤاله
إياه أن يريه صورته التي خلق عليها ، والثانية عند المعراج ،وتكون هذه المرة
غير المرتين المذكورتين ،وإنما لم يضُمّها إليهما لاحتمال أن لا يكون رآه فيها
على تمامِ صورته.
(17) ما أنا بقارئ ، ما نافية إذ لو كانت استفهاميّة لم يصلح دخول الباء ، والباء
زائدة لتأكيد النفي أي: ما أحسن القراءة فلما قال ذلك ثلاثا قيل له {اقرأ باسم ربك
الذي خلق } أي لا تقرؤه بقوّتك ولا معرفتكَ لكن بحول ربّـك وإعانته فهو يعلّمك
وعلّم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أميّة.
(18) فغطني ، الغط حبس النفس ، ومنه غطه في الماء أو أراد غمني وهو الخنق.
(19) لقد خشيت على نفسي ، اختلف العلماء في مُراد الخشية على اثني عشر قولا
وأوْلى هذه الأقوال بالصواب:أنّه خشي الموت من شدة الرعب وقيل:المرض
وقيل: دوام المرض .
(20) هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ،الذي عليه الجمهور أن الناموس
صاحب السر ،ولم يقل على عيسى مع كونه نصرانيا لأن كتاب موسى عليه
السلام مشتمل على أكثر الأحكام بخلاف عيسى وكذلك النبي-صلى الله عليه وسلم-
،أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه بخلاف عيسى كذلك وقعت
النقمة على يد النبي-صلى الله عليه وسلم- بأبي جهل ومن معه ببدر.
(21) يا ليتني فيها جذع ،قال ابن بري: التقدير يا ليتني جُعلت فيها جذعا ،والجذَع
هو الصغير من البهائم،كأنه تمنّى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا
ليكون أمكن لنصره.
الحديث الخامس {لا تحرك به لسانك لتعجل به}
(22) كان مما يعالج،المعالجة محاولة الشيء بمشقّة ،أي كان العلاج ناشئا من
تحريك الشفتين ،أي مبدأ العلاج منه هكذا قرره الكرماني ، وفيه نظر لأن الشدة
حاصلة له قبل التحرك والصواب ما قاله ثابت السرقسطي أنّ المُراد كان كثيرا ما
يفعل ذلك.
الحديث السادس "كان النبي-صلى الله عليه وسلم- أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان"
(23) فيدارسه القرآن ، قيل الحكمة فيه أن مُدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد
غنى النفس ، والغنى سبب الجود ، والجود في الشرع: إعطاءُ ما ينبغِي لمن
ينبغي وهو أعم من الصدقة.
(24) من الريح المُرسلة ، أي: المُطلقة يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من
الريح المُرسلة وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة ، وإلى عموم
النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه.
الحديث السابع "حديث أبي سفيان مع هرقل "
(25) من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم ، فيه عدول عن ذكره
بالملك أو الإمْرة لأنه معزول بحكم الإسلام لكنه لم يخله من إكرام لمصلحة التآلف.
(26) الإريسيين ، قال ابن سيده الأريس الأكار أي الفلاح ، وعند كراع هو الأمير ،
قال أبو عبيد المراد بالفلاحيين أهل مملكته قال الخطابي : أراد أن عليك إثم
الضعفاء والأتباع إذا لم يسلموا تقليدا له لأن الأصاغر أتباع الكبائر .
(27) أمِر أمرُ ابن أبي كبشة ، أراد به النبي-صلى الله وعليه وسلم- لأن أبا كبشة
أحد أجداده ، وعادة العرب إذا انتقصَت نسبت إلى جد غامض ، وقال الخطابي
والدارقطني :هو رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان فعبد الشعرى
فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة .
كتاب الإيمان
(28) الإيمان قول وفعل يزيد وينقص ، الكلام هُنا في مقاميْن أحدهما:كونه قولا
وعملًا والثاني:كونه يزيد وينقص
فأما القول فالمُراد به النطق بالشهادتين ، وأما العمل فالمُراد به ما هو أعم
من عمل القلب والجوارح ليدخل الاعتقادات والعبادات ومراد من أدخل ذلك
–في تعريف الإيمان-ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله ، أما بالنظر
إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط فمن أقرّ أُجريت عليه الأحكام في
الدنيا ولم يُحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره ، فإن كان
الفعل لا يدل على كفر كالفسق فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره ،
ومن نفى عنه فبالنظر إلى كماله.
(29) قال السلف الإيمان هو: اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان
،وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله ، والمرجئة قالوا:هو اعتقاد ونطق فقط
، والكرامية قالوا :هو نطق فقط والمعتزلة قالوا:هو العمل والنطق والاعتقاد وهم
جعلوا الأعمال شرطا في صحته ، والسلف جعلوها شرطا في كماله .
(30) وذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص ، وأنكرَ ذلك أكثر المُتكلمين
وقالوا متى قُبل ذلك كان شكا ، وقال الشيخ محيي الدين :والأظهر المُختار أن
التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلّة ولهذا كان إيمان الصدّيق أقوى
من إيمان غيره بحيث لا تعتريه شُبهة.
الحديث الثامن "بُني الإسلام على خمس"
(31) بني الإسلام على خمس ، لم يذكر الجهاد لأنه فرض كفاية ولا يتعيّن إلّا في
بعض الأحوال ، ولهذا جعله ابن عمر جواب السائل
الحديث التاسع "الإيمان بضع وستون شُعبة"
(32) الإيمان بضع وستون شعبة ، وهو عدد مبهم مقيّد بما بين الثلاث إلى التسع
كما جزم به القزاز.
وقيل من واحد إلى تسعة(شعبة)أي: القطعة والمراد الخصلة أو الجزء
(33) الحياء ، وهو خلق يبعث على اجتناب القبيح ، ويمنع من التقصير في حق
ذي الحق.
(34) فإن قيل الحياء من الغرائز فكيف جُعل شعبة من الإيمان؟ أجيب بأنه قد
يكون غريزة وقد يكون تخَـلُّـقَا ولكن استعماله على وقف الشرع يحتاج إلى اكتساب
وعلم ونية ، فهو من الإيمان لهذا ، ولكونه باعثا على فعل الطاعة وحاجزا عن
فعل المعصية.
(35) والحياء ، إن قيل لمَ أفرد بالذكرِ هنا ؟ أجيب بأنه كالداعي إلى باقي الشعب ،
إذ الحيي يخاف فضيحة الدنيا والآخر فينزجر.
الحديث العاشر"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"
(36) المسلم من سلم ، قال الخطابي :المُراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء
حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين
(37) من سلم المسلمون ، ذكر المُسلمين هنا مخرج الغالب لأن محافظة المسلم
على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيدا ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان
فيهم من يجب الكف عنه ، والإتيان بجمع التذكير للتغليب .
(38) من سلم المسلمون من لسانه ويده ، في التعبير باللسان دون القول نكتة
فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء ، وفي ذكر اليد دون غيرها من
الجوارح نكتة فيدخل فيها اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق .
(39) والمُهاجر ، هذه الهجرة ضربان:ظاهرة وباطنة ، فالباطنة ترك ما تدعو إليه
النفس الأمارة بالسوء والشيطان ، والظاهرة الفرار بالدين من الفتن ، وكأن
المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتّكلوا على مجرّد التحوّل من دراهم حتى يمتثلوا
أوامر الشرع ونواهيه.
الحديث الثاني عشر"إطعام الطعام من الإسلام"
(40) أيّ الإسلام أفضل ؟ ، تقديره أي ذوي الإسلام أفضل ويؤيده رواية مسلم
"أي المسلمين أفضل "
(41) على من عرفت ومن لم تعرف ، أي:لا تخص به أحدا تكبّرا أو تصنّعا ، بل
تعظيما لشعار الإسلام ومراعاة لإخوة المسلم.
الحديث الثالث عشر "من الإيمان أن يُحب لأخيه ما يحب لنفسه"
(42) لا يؤمن ،المُراد نفي كمال الإيمان ونفي اسم الشيء – على معنى نفي
الكمال عنه – مستفيض في كلامهم ولا يلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة
مؤمنًا كاملاً وإن لم يأت ببقية الأركان لأن هذا ورد مورد المُبالغة .
(43) ما يحب لنفسه ، أي من الخير ، والخير كلمة جامعة تعم الطاعات
والمُباحات الدنيوية والأخروية وتخرج المنهيات لأن اسم الخير لا يتناولها ،
والمحبة إرادة ما يعتقده خيرا .
(44) فائدة: قال الكرماني : ومن الإيمان أيضا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه
من الشر ، ولم يذكره لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه فترك التنصيص
عليه اكتفاء.
الحديث الرابع عشر "حب الرسول-صلى الله عليه وسلم-من الإيمان"
(45) من والده وولده ، قدّم الوالد للأكثرية لأن كل أحد له والدٌ من غير عكس.
الحديث الخامس عشر"حب الرسول-صلى الله عليه وسلم-من الإيمان "
(46) حتى أكون أحب إليه ، المراد بالمحبّة هنا حب الاختيار لا حب الطبع ، وفي
كلام القاضي عياض:أن ذلك شرط في صحّة الإيمان لأنه حمَل المحبّة على معنى
التعظيم والإجلال ، وتعقّبه صاحب المفهم أن ذلك ليس مرادا هنا ، لأن اعتقاد
الأعظيمة ليس مستلزما للمحبة إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من
محبته.
(47) ويكونُ حبه-صلى الله عليه وسلم- في نصر سنته ، والذبّ عن شريعته
وقمع مخالفيها ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ، وإذا تأمل
الإنسان النفع الحاصل له من جهة الرسول-صلى الله عليه وسلم- الذي أخرجه من
ظلمات الكفر إلى نور الإيمان علِم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم
السرمدي فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره
الحديث السادس عشر"باب حلاوة الإيمان"
(48) وجد حلاوة الإيمان ، فيه إستعارة تخيلية شبّه رغبة المؤمن في الإيمان
بشيء حلو وأثبت له لازم ذلك الشيء وأضافه إليه .
(49) أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، قال البيضاوي :المُراد هنا
بالحب الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه ، وإن كان على
خلاف هوى النفس فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح
عاجل أو خلاص آجل تمرّن على الإئتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعا له ويلتذّ
بذلك التذاذًا عقليا ، إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك.
(50) وأن يُحب المرء ، قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر
ولا ينقص بالجفاء .
الحديث السابع عشر"علامة الإيمان حب الأنصار"
(51) آية الإيمان حب الأنصار ، الآية العلامة ، أي: لا يقع حب الأنصار إلا من
لمؤمن ، وليس فيه نفي الإيمان عن من لم يقع منه ذلك بل فيه أن غير المؤمن
لا يحبهم ،وظاهر اللفظ يقتضي أن من أبغضهم منافقا وإن صدق وأقر لكنه غير
مراد لاشتماله على تقييد البغض بالجهة فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة –وهي
كونهم نصروا رسول الله – أثر ذلك في تصديقه فيصح أنه منافق.
الحديث الثامن عشر"مبايعة النبي-صلى الله عليه وسلم -لأصحابه
(52) قال وحوله عصابة من أصحابه بايعوني ، العصابة: الجماعة من العشرة
إلى الأربعين ،بايعوني ، المُبايعة عبارة عن المعاهدة
(53) ولا تأتون ببهتان ، البُهتان الكذب الذي يبهت سامعه ، وخص الأيدي
والأرجل بالافتراء لأن معظم الأفعال تقع بهما، وقد يكون المراد لا تبهتوا الناس
كفاحا وبعضكم يشاهد بعضا.
(54) ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ، قال القاضي
عياض : ذهب أكثر العلماء أن الحدود كفارات واستدلوا بهذا الحديث.
(55) فعوقب به ، قال ابن التين :يريد به القطع في السرقة والجلد أو الرجم في
الزنا ، وحكُي عن القاضي إسماعيل وغيره: أن قتل القاتل إنما هو رادعٌ لغيره ،
وإما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم لم يصل إليه .
قلت بل وصل إليه حق وأي حق فإن المقتول ظلما تكفر عنه ذنوبه بالقتل
ولو كان حد القتل إنما شرع للردعِ فقط لم يشرع العفو عن القاتل ، وقول
الجمهور أن إقامة الحد كفارة للذنب ولو لم يتب المحدود
(56) واختلفوا فيمن أتى ما يوجب الحد فقيل:يجوز أن يتوب سرا ويكفيه ذلك
وقيل:بل الأفضل أن يأتي الإمام ويعترف به ويسأله أن يقيم عليه الحد .
الحديث التاسع عشر"من الدين الفرار من الفتن"
(57) شعف الجبال ، أي رؤوس الجبال ، ومواقع القطر ، أي: بطون الأودية
خصها بالذكر لأنها مظان المرعى.
الحديث العشرون"قول النبي-صلى الله عليه وسلم-أنا أعلمكم بالله"
(58) قوله:أنا أعلمكم بالله ، ظاهر في أن العلم بالله درجات وأن بعض الناس فيه
أفضل من بعض وأن النبي-صلى الله عليه وسلم- منه في أعلى الدرجات ،والعلم
بالله يتناولُ ما بصفاته وما بأحكامه وما يتعلق بذلك ، فهذا هو الإيمان حقا.
(59) {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}قال النووي: في الآية دليل على المذهب
الصحيح أن أفعال القلوب يؤاخذ بها إن استقرت وقوله إن الله تجاوز لي عن
أمتى ما حدثت بها نفسها ما لم تكلم به أو تعمل "فمحمول على ما لم إذا لم تستقر .
(60) كان إذا أمر الناس بالشيء ،قالوا المعنى كان إذا أمرهم بما يسهل عليهم
دون ما يشق خشية أن يعجزوا عن الدوام عليه طلبوا منه التكليف بما يشق
لاعتقادهم احتياجهم إلى المُبالغة في العمل لرفع الدرجات دونه فيقولون لسنا
كهيئتك فيغضب من جهة أن حصول الدرجات لا يوجب التقصير في العمل بل يوجب
الازدياد شكرا للمُنعم الواهب .
الحديث الثاني والعشرون "تفاضل أهل الإيمان في الأعمال"
(61) أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة ، قال الخطابي: هو مثل ليكون في
عيارا في المعرفة لا في الوزن ، لأن ما يُشكل في المعقول يُردّ إلى المحسوس
ليُفهم.
والمراد بحبة الخردل هُنا ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد.
(62) مثقال حبة خردل من إيمان ، فيخرجون منها ، أراد بإيراد هذا الحديث الرد
على المرجئة لما فيه من بيان ضرر المعاصي مع الإيمان ، وعلى المعتزلة في أن
المعاصي موجبة للخلود.
الحديث الثالث والعشرون" تفاضل أهل الإيمان في الأعمال"
(63) منهم ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك،مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهرة
من جهة تأويل القمص بالدين ، وقد ذكر أنهم متفاضلون في لبسها فدل على أنهم
متفاضلون في الإيمان.
الحديث الربع والعشرون"الحياء من الإيمان"
(64) وهو يعظ أخاه في الحياء ،فكأنّ الرجل كان كثير الحياء فكان ذلك يمنعه من
استيفاء حقوقه فعاتبه أخوه على ذلك.
(65) فإن الحياء من الإيمان،قال ابن قتيبة :معناه أن الحياء يمنع صاحبه من
ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان ،فسمي إيمانا كما يسمى الشيء باسم ما قام
مقامه.
الحديث الخامس والعشرون"أمرت أن أقاتل الناس"
(66) أن أقاتل الناس حتى يشهدوا...،جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر فمقتضاه
أن من شهد وأقام عصَم دمه ولو جحد باقي الأحكام والجواب أن الشهادة بالرسالة
تتضمن التصديق بما جاء به وقوله "إلا بحق الإسلام " يدخل فيه جميع ذلك.
(67) ويقيموا الصلاة ،قال النووي:في هذا الحديث أن من ترك الصلاة عمدا يُقتل
،وفي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظر للفرق بين صيغة أقاتل
وأقْتُل .
(68) أقاتل، قال ابن دقيق العيد :المقاتلة مفاعلة تستلزم وقوع القتال من الجانبين
ولا كذلك القتل .
(69) وحسابهم على الله ، فيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما
يقتضيه الظاهر والاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافا لمن أوجب تعلم
الأدلة .
(70) وحسابهم على الله ، يؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقريين بالتوحيد
الملتزمين للشرائع وقبول توبة الكافر من كفره من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو
باطن.
(71) فإن قيل: مقتضى الحديث قتال كل من امتنع عن التوحيد فكيف ترك قتال
مؤدي الجزية والمعاهد.؟فالجواب من أوجه أحسنها: أن الغرض من ضرب الجزية
اضطرارهم إلى الإسلام ،وسبب السبب سبب ، فكأنه قال حتى يسلموا أو يلتزموا
ما يؤديهم إلى الإسلام .
الحديث السادس والعشرون"باب من قال إن الإيمان هو العمل"
(72) {أورثتموها } أي صيرت لكم إرثا وأطلق الإرث مجازا عن الإعطاء لتحقق
الاستحقاق .
(73) قيل كيف الجمع بين قوله تعالى{أورثتموها بما كنتم تعلمون } وحديث "لن
يدخل أحد الجنة بعمله " فالجواب أن المنفي في الحديث دخولها بالعمل المُجرّد
عن القبول ، والمُثبت في الآية دخولها بالعمل المُتقبل ، والقبول إنما يحصل
برحمة الله ، فلم يحصل الدخول إلا برحمة الله .
(74) حج مبرور ، أي مقبول منه وقيل:المبرور الذي لا يُخالطه إثم وقيل:الذي لا
رياء فيه.
الحديث السابع والعشرون"فقلت يا رسول الله ما لك عن فلان ؟ والله إني لأراه مؤمنا"
(75) أعطى رهطا ، الرهط عدد من الرجال من ثلاثة إلى عشرة ، ورهط الرجل
بنو أبيه الأدنى وقيل:قبيلته .
(76) فو الله لأراه ، قيل بفتح الهمزة قال الشيخ محيي الدين أي:أعلمه ، ولا
يجوز ضمها فيصير بمعنى أظنه لأنه قال بعد ذلك "غلبني ما أعلم منه" .
ولا دلالة فيما أطلق على تعيين الفتح لجواز إطلاق العلم على الظن الغالب
ومنه قوله تعالى "فإن علمتموهن مؤمنات"
(77) أو مسلما ، قيل: هي للتنويع ، وقيل:هي للتشريك وأنه أمره أن يقولهما معا
لأنه أحوط ، وليس معناه الإنكار بل المعنى أن إطلاق المسلم على من لم يختبر
حاله الخبرة الباطنة أولى من إطلاق المؤمن لأن الإسلام معلوم بحكم الظاهر قاله
الشيخ محيي الدين.
(78) محصل القصة أن النبي-صلى الله وعليه وسلم- كان يوسع العطاء لمن أظهر
الإسلام تألفا ، فلما أعطى الرهط وهم من المؤلفة وترك جعيلا وهو من المهاجرين
مع أن الجميع سألوه خاطبه سعد في أمره لأنه كان يرى أن جعيلا أحق منهم
ولهذا راجع فيه أكثر من مرة.
(79) ،وأرشده النبي-صلى الله وعليه وسلم- إلى أمرين 1:إعلامه الحكمة في
أعطاء أولئك الرهط وحرمان جعيل مع كونه أحب إليه ممن أعطى لأنه لو ترك
إعطاء المؤلف لم يؤمن ارتداده فيكون من أهل النار
2:إرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن .
الحديث الثامن والعشرون"السلام من الإسلام"
(80) قال عمار ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان ،الإنصاف من نفسك وبذل
السلام للعالم والإنفاق من الإقتار.
قال أبو الزناد بن سراج وغيره :إنما كان من جمع الثلاث مستكملا للإيمان
لأن مداره عليها لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولا ه حقا واجبا
إلا أداه ولم يترك شيئا مما نهاه عنه إلا اجتنبه وهذا يجمع أركان الإيمان.
(81) وتقرئ السلام ، وبذل السلام يتضمن مكارم الأخلاق والتواضع وعدم
الاحتقار ويحصل به التآلف والتحابب ،والإنفاق من الاقتار يتضمن غاية الكرم لأنه
إذا أنفق من الاحتياج كان مع التوسع أكثر إنفاقا.
الحديث التاسع والعشرون"كفران العشير"
(82) قول المصنف باب كفران العشير وكفر دون كفر ، قال القاضي أبو بكر:
مراد المصنف أن يبيّن كما أن الطاعات تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا
ولا يراد الكفر المخرج من الملة ، والعشير الزوج قيل له عشير بمعنى معاشر.
الحديث الثلاثون" قول النبي -صلى الله عليه وسلم لأبي ذر إنك امرؤ فيك جاهلية"
(83) إنك امرؤ فيك جاهلية {إن الله لا يغفر أن يشرك به}ذُكرت قصّة أبي ذر
ليُستدلّ بها على أنّ من بقيَت فيه خصلة من خصال الجاهلية سوى الشِرك لا
يخرج عن الإيمان بها ،سواء كانت من الصغائر أم من الكبائر.
(84) واستدل المؤلف أيضا على أن المسلم إذا ارتكبَ معصية لا يكفر لأن الله
تعالى أبقى عليه اسم المؤمن {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا}
(85) إنكَ امرؤ فيك جاهلية ، خصلة من خصال الجاهلية ، ويظهر لي أن ذلك كان
من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه فكانت تلك الخصلة باقية عنده ولهذا قال كما
في الأدب المفرد "على ساعتي هذه من كبر السن ؟ "كأنه تعجّب من خفاء ذلك
عليه مع كبر سنّه فبيّن له كون هذه الخصلة مذمومة شرعًا.
الحديث الثاني والثلاثون"ظلم دون ظلم"
(86) باب ظلم دون ظلم ، دون يحتمل أن تكون بمعنى غير ، أي:أنواع الظلم
متغايرة ، أو بمعنى الأدنى أي:بعضها أخف من بعض وهو أظهر من مقصود
المؤلف.
(87) إن قيل لا يلزم من قوله تعالى {إن الشرك لظلم عظيم }أن غير الشرك لا
يكون ظُلما فالجواب: أن التنوين في قوله لظلم للتعظيم وقد بين ذلك استدلال
الشارع بالآية الثانية ، فالتقدير لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم أي بشرك إذ لا ظلم
أعظم منه .
(88) {لم يلبسوا إيمانهم بظلم}أي: لم يخلطوا قال محمد بن إسماعيل التيمي في
شرحه: خلْط الإيمان بالشرك لا يتصوّر فالمُراد أنهم لم تحصل لهم الصفتان كفر
متأخر عن إيمان متقدّم أي لم يرتدوا ، ويُحتمل أن يُراد أنهم لم يجمعوا بينهما
ظاهرا وباطنا أي لم يُنافقوا وهذا أوجه.
(89) {أولئك لهم الأمن}إن قيل فالعاصي قد يعذَّب فما هو الأمن والاهتداء الذي
حصل له ؟ فالجواب أنه آمن من التخليد في النار ، مهتد إلى طريق الجنّـة .
الحديث الثالث والثلاثون"علامة المُنافق"
(90) باب علامات المُنافق ،قال الشيخ محيي الدين :مُراد البخاري بهذه الترجمة
أن المعاصي تُنقص الإيمان كما أن الطاعة تزيده ،قال الكرماني : مناسبة هذا
الباب لكتاب الإيمان أن النفاق علامة عدم الإيمان ،أو ليُعلم منه أن بعض النفاق
كفر دون بعض.
(91) النفاق لغة:مخالفة الباطن للظاهر فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق
الكفر،وإلا فهو نفاق العمل ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه
(92) آية المنافق ثلاث ،فإن قيل ظاهره الحصر في الثلاث فكيف جاء في الحديث
الآخر "أربع من كن فيه.."
أجاب القُرطبي باحتمال أنه استجدّ له –صلى الله عليه وسلم- من العلم
بخصالهم ما لكم يكن عنده.
وأقول :ليس بين الحديثين تعارض لأنه لا يلزم من عد الخصلة المذمومة
الدالة على كمال النفاق كونها علامة على النفاق ،لاحتمال أن تكون
العلامات دالات على أصل النفاق ، والخصلة الزائدة إذا أضيفت لذلك كمُل
بها خلوص النفاق .
(93) ووجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاث أنها منبهة على ما عدَاها إذ أصل
الديانة منحصر في ثلاث القول والفعل والنية فنبّه على فساد القول بالكذب وعلى
فساد الفعل بالخيانة وعلى فساد النية بالخلف.
(94) إذا وعد أخلف ، خُلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارنا للوعد ،
أما لو كان عازما ثم عرضَ له مانع أو بدا له رأي فهذا لم توجد منه صورة النفاق .
(95) كان منافقا ، قال المحققون معناه أن هذه خصال نفاق وصاحبها شبيه
بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلّق بأخلاقهم قلت ومحصل هذا الجواب
الحمل في التسمية على المجاز أي: صاحب هذه الخصال كالمنافق ،وهو بناء
على أنّ المُراد بالنفاق نفاق الكفر وقد قيل بالجواب عنه إن المراد بالنفاق نفاق
العمل ارتضاه القُرطبي.
الحديث السادس والثلاثون"الجهاد من الإيمان"
(96) انتدب الله ، أي سارع بثوابه وأحسن جزائه وقيل بمعنى :أجاب إلى
المُراد وقيل:معناه تكفل بالمطلوب .
الحديث التاسع والثلاثون"الدين يسر"
(97) باب الدين يسر ، أي دين الإسلام ذو يُسر ، أو سمّي الدين يُسرًا مبالغة
بالنسبة إلى الأديان قبله ، لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من
قبلهم.
(98) أحب الدين ، أي خصال الدين لأن خصال الدين كلها محبوبة لكن ما كان
منها سمحا –أي سهلا- فهو أحب إلى الله.
(99) ولن يشاد أحد الدينَ إلا غلبه ، والمشادة المُبالغة والمعنى :لا يتعمّق أحد في
الأعمال الدينية ويَتْركَ الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب قال ابن المنير :وليس
المراد منه طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة ، بل منع الإفراط
المؤدّي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل.
(100) فسددوا،الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط ،
"وقاربوا"إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يَقرب منه
"وأبشروا"بالثواب على العمل الدائم وإن قل .
(101) واستعينوا بالغدوة ، أي:استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في
الأوقات المنشطة والغدوة بالفتح سير أول النهار ، و"الروحة" بعد الزوال
"والدلجة"سير آخر الليل وقيل:سير الليل كله .
(102) وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر ، وحسْنِ هذه الاستعارة أن الدنيا في
الحقيقة دار نقلة إلى الآخرة ، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها
العبد للعبادة.
الحديث الأربعون"الصلاة من الإيمان "
(103) {وما كان الله ليضيع إيمانكم}أي: صلاتكم عند البيت ، أي بيت المقدس
وقيل: إن فيه تصحيفا والصواب صلاتكم لغير البيت ، وعندي أنه لا تصحيف فيه
بلهو الصواب ومقاصد البخاري في هذه الأمور دقيقة ذلك أن العلماء اختلفوا في
الجهة التي كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يتوجه إليها للصلاة وهو بمكة وأصح
الأقوال قول ابن عباس وغيره : أنه كان يصلي إلى بيت المقدس لكنه لا يستدير
الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس فتقدير الكلام "صلاتكم التي صليتموها
عند البيت إلى بيت المقدس ".
(104) أنه مات على القبلة رجال قتلوا ، ذكر القتل لم أره إلا في رواية زهير
،والذين ماتوا بعد فرض الصلاة وقبل تحويل القبلة عشرة أنفس ولم أجد في شيء
من الأخبار أن أحدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة لكن لا يلزم من عدم الذكر
عدم الوقوع.
الحديث الواحد والأربعون"إذا أسم العبد فحسن إسلامه يُكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها"
(105) فحسن إسلامه ، أي صار إسلامه حسنا باعتقاد وإخلاصه ودخوله فيه
بالباطن والظاهر وأن يستحضر عند عمله قُرب ربه منه واطلاعه عليه.
(106) أزلفها،ألف بمعنى أسلف ،وفي الجامع الزلفة تكون في الخير والشر.
(107) قال المازري: الكافر لا يصح منه تقرب ، فلا يثاب على العمل الصالح
الصادر منه في شركه لأن من شرط المتقرّب أن يكون عارفا لمن يتقرّب إليه
والكفار ليس كذلك ، قال النووي: والصواب أن الكافر إذا فعل أفعالاً جميلة
كالصدقة وصلة الرحم ثم أسلم ومات على الإسلام أن ثواب ذلك يُكتب له .
والحديث إنما تضمن الثواب ولم يتعرض للقبول ويحتمل أن يكون القبول
يصير معلقا على إسلامه فيقبل ويثاب إن أسلم وإلا فلا.
(108) وكان بعد ذلك القصاص،أي:كتابة المجازاة في الدنيا "إلا أن يتجاوز الله
عنها"فيه دليل على الخوارج وغيرهم من المكفرين بالذنوب والموجبين لخلود
المذنبين في النار.
الحديث الثالث والأربعون"أحب الدين إلى الله أدومه"
(109) باب أحب الدين إلى الله أدومه ، مرادُ المصنف الاستدلال على أن الإيمان
يُطلق على الأعمال ، لأن المُراد بالدين هنا العمل.
(110) مه ،قال الداودي أصل هذه الكلمة "ما هذا "كالإنكار ،وهذا الزجر يحتمل
أن يكون لعائشة والمراد نهيها عن مدح المرأة بما ذكرت ، ويحتمل أن يكون
المراد النهي عن ذلك الفعل.
(111) عليكم من الأعمال ما تطيقون،أي:اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون
المداومة عليه ،فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يُطاق من العبادة
ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق.
(112) لا يمل الله حتى تملوا ،الملال استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد
محبته وهو محال على الله باتفاق ،قال المازري قيل إن حتى هنا بمعنى الواو
فيكون التقدير لا يمل وتملون فنفى عنه الملل وأثبته لهم ،وقال الهروي:معناه لا
يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله فتزهدوا في الرغبة إليه.
(113) ما داوم عليه صاحبه ، قال النووي: بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر
والمُراقبة والإخلاص والإقبال على الله بخلاف الكثير الشاق حتى ينو القليل
الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة .
الحديث الرابع والأربعون"يخرج من الناؤ من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير"
(114) باب زيادة الإيمان ونقصانه ، قال ابن بطال:التفاوت في التصديق على
قدر العلم والجهل فمن قل عمله كان تصديقه مثلا بمقدار ذرة والذي فوقه في العلم
تصديقه بمقدار برة أو شعيرة
إلا أن أصل التصديق الحاصل في قلب كل أحد منهم لا يجوز عليه النقصان
ويجوز عليه الزيادة بزيادة العلم والمعاينة.
(115) من قال لا إله إلا الله وفي قلبه ،فيه دليل على اشتراط النطق بالتوحيد
،أو المراد بالقول هنا القول النفسي فالمعنى أن من أقر بالتوحيد وصدق ، فالإقرار
لا بد منه
(116) برة ،وهي القمحة ،ذرة هي أقل الأشياء الموزونة.
الحديث السادس والأربعون"جاء رجل من أهل نجد يسأل عن الإسلام"
(117) {ذلك دين القيّـمة }دين الإسلام ، والقيمة المستقيمة ،وقد جاء بمعنى
استقام في قوله تعالى :{أمة قائمة} أي:مستقيمة.
(118) ثائر الرأس ،المُراد أن شعره متفرّق من ترك الرفاهيّـة ،ففيه إشارة إلى
قرب عهده بالوفادة.
(119) يسمع دوي صوته ، قال الخطابي:الدوي صوت مرتفع متكرر لا يُفهم
وإنما كان كذلك لأنه نادى من بُعد.
(120) فإذا هو يسأل عن الإسلام ، عن شرائع الإسلام ، لم يذكر الحج إنما لأنه
لم يفرض بعد أو الراوي اختصره .
(121) لا إلا أن تطوع ،استُدل بهذا على أن الشروع في التطوع يوجب إتمامه
تمسُّكا بأن الاستثناء فيه متصل وقيل لا يدل ، ومن قال أنه متصل تمسك بالأصل
ومن قال أنه منقطع احتاج إلى دليل ،والدليل ما روى النسائي وغيره أن النبي-
صلى الله عليه وسلم- كان أحيانا ينوي صوم التطوع ثم يُفطر ، فدل على أن
الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام –إذا كانت نافلة- باستثناء الحج لأنه امتاز
عن غيره بالمضي في فاسده فكيف في صحيحة.!
(122) أفلح وأبيه إن صدق،فإن قيل ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف
بالآباء ؟ أجيبَ بأن ذلك كان قبل النهي أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يُقصد
بها الحلف .
(123) أفلح إن صدق ، أما فلاحهُ بأنه لا ينقص فواضح ، وأما بأن لا يزيد
فكيف يصح؟أجاب النووي : بأنه أثبت له الفلاح لأنه أتى بما عليه ، وليس فيه
بأنه أتى بزائد على ذلك لا يكون مفلحا لأنه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب
أولى.
(124) فإن قيل فكيف أقرّهُ على حلفه وقد ورد النكير على من حلف أن لا يفعل
خيرا؟أجيب بأن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ، وهذا جار على الأصل
بأنه لا إثم على غير تارك الفرائض ،فهو مفلح وإن كان غيره أكثر فلاحا منه.
الحديث الثامن والأربعون"سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر"
(125) باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر ،هذا الباب معقود للرد
على المرجئة خاصة ،والمرجئة نسبوا إلى الإرجاء وهو التأخير لأنهم أخروا
الأعمال عن الإيمان فقالوا:الإيمان هو التصديق بالقلب فقط ولم يشترط جمهورهم
النطق ،وجعلوا للعصاة اسم الإيمان على الكمال وقالوا:لا يضر مع الإيمان ذنب
أصلا.
(126) أن يحبط عمله ، أي: يحرم ثواب عمله لأنه لا يثاب إلا على ما أخلص فيه.
(127) قال القاضي أبو بكر: الإحباط إحباطان ، الأول:إبطال الشيء للشيء
وإذهابه جملة كإحباط الإيمان للكفر والكفر للإيمان وذلك في الجهتين إذهاب
حقيقي ، الثاني:إحباط الموازنة إذا جعلت الحسنات في كفة والسيئات في كفة ،
فمن رجحت حسناته نجا ، ومن رجحت سيّئاته وقف في المشيئة إما أن يغفر له
وإما أن يُعذّب ،وليس هو إبطال حقيقة لأنه إذا أخرج من النار وأدخل الجنة عاد
إليه ثواب عمله.
(128) سباب المسلم ، قال إبراهيم الحربي: السباب أشد من السب وهو أن
يقول الرجل ما فيه وما ليس فيه يريد بلك عيبه.
(129) فسوق:الفسوق شرعا الخروج عن طاعة الله ورسوله وهو في عرف
الشرع: أشد من العصيان ،ففي الحديث تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه
بغير حق بالفسق ومفتضاه الرد على المرجئة.
(130) وقتاله كفر ،لم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة بل أطلق
عليه الكفر مبالغة في التحذير معتمدا على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا
يخرج عن الملة ، أو أطلق عليه الكفر لشبهه به لأن قتال المؤمن من شأن الكافر.
الحديث التاسع والأربعون"إني خرجت لأخبركم بليلة القدر"
(131) خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى ،التلاحي هو التنازع والمخاصمة.
(132) "فرفعت"أي فرفع تعيينها عن ذكري ،قال القاضي فيه دليل على أن
المُخاصمة مذمومة وأنها سبب في العقوبة المعنوية أي الحرمان
(133) {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}يقتضي المؤاخذة بالعمل الذي لا
قصد فيه ، فالجواب أن المُراد وأنتم لا تشعرون بالإحباط لاعتقادكم صغر الذنب ،
فقد يعلم المرء الذنب ولكن لا يعلم أنه كبير.
(134) وعسى أن يكونَ خيرا ، أي: وإن كان عدم الرفع أزيد وأولى منه لأنه
متحقق فيه ، لكن في الرفع خير مرجو لاستلزامه مزيد الثواب ، لكونه سببا
لزيادة الاجتهاد في التماسها .
الحديث الخمسون"سؤال جبريل النبي-صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة"
(135) باب سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام ، نقل أبو عوانة الإسفرايني في
صحيحه عن المزني صاحب الشافعي الجزم أن :الإيمان والإسلام عبارة عن معنى
واحد ،وعن الإمام أحمد الجزم بتغايرهما ، قال الخطابي :والحق أن بينهما عموما
وخصوصا فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا . ومقتضاه أن الإسلام لا يطلق
على الاعتقاد والعمل معا ، بخلاف الإيمان فإنه يطلق عليهما معا.
(136) إذ أتاه رجل يمشي ،أي ملك في صورة رجل.
(137) "ووضع يديه على فخذيه "الضمير يعود على فخذي النبي-صلى الله
عليه وسلم ، ووضع يديه على فخذ النبي-صلى الله عليه وسلم- صنيع منبه
للإصغاء إليه ،وفيه إشارة لما ينبغي للمسؤول من التواضع والصفح عما يبدو من
جفاء السائل .
(138) الإيمان أن تؤمن بالله .. ، دل الجواب أنه علم أنه سأله عن مُتعلقاته لا
عن معنى لفظه وإلا لكان الجواب :الإيمان التصديق ،والإيمان بالله هو التصديق
بوجوده وأنه متصف بصفات الكمال ، منزه عن صفات النقص.
(139) وملائكته ،الإيمان بالملائكة التصديق بوجودهم وأنهم كما وصفهم الله
تعالى {عباد مكرمون}وقدم الملائكة نظرا للترتيب الواقع لأنه سبحانه تعالى أرسل
الملك بالكتاب إلى الرسول وليس فيه متمسك لمن فضل الملك على الرسول .
(140) وبلقائه ،قيل أنها مكررة لأنها داخلة في الإيمان بالبعث ،والحق أنها غير
مكررة فقيل المراد بالبعث القيام من القبور ،والمراد باللقاء ما بعد ذلك
،وقيل:اللقاء يحصل بالانتقال من دار الدنيا ، والبعث بعد ذلك .
(141) وتؤمن بالبعث، زاد في التفسير "الآخر" قيل له ذلك لأنه آخر أيام الدنيا
أو آخر الأزمنة المحدودة والمراد بالإيمان به التصديق بما يقع فيه من الحساب
والميزان والجنة والنار.
(142) وتؤمن بالقدر ،المراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل
إيجادها ،ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد فكل محدث صادر عن علمه
وقدرته وإرادته .
(143) الإحسان ،إحسان العبادة الإخلاص فيها والخشوع وفراغ البال حال
التلبس بها ومراقبة المعبود .
(144) كأنك تراه ،أشار إلى حالتين أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه
حتى كأنه يراه بعينه "كأنك تراه"أي: وهو يراك والثانية أن يستحضر أن الحق
مطلع عليه يرى كل ما يعمل "فإنه يراك"وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله
وخشيته.
(145) زاد مسلم قول السائل "صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه " قال القرطبي
إنما عجبوا من ذلك لان ما جاء به النبي-صلى الله عليه وسلم- لا يُعرف إلاّ من
جهته وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي ولا بالسماع منه ثم هو يسأل
سؤالا عارف بما سأل عنه لأنه يخبره بأنه صادق فيه.
(146) ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، الباء زائدة لتأكيد النفي ، وهذا
وإن كان مشعرا بالتساوي في العلم لكن المُراد التساوي في العلم بأن الله استأثرَ
بعلمها.
(147) وسأخبرك عن أشراطها ، قال القرطبي علامات الساعة على قسمين :ما
يكون من نوع المعتاد أو غيره ،والمذكور هنا الأول ، وأما الغير مثل طلوع
الشمس من مغربها فتلك مقاربة لها أو مطابقة والمراد هنا العلامات السابقة على
ذلك .
(148) إذا ولدت الأمة ربها ،والمراد بالرب المالك أو السيد ،اختلف العلماء
قديما وحديثا في معنى ذلك منها : أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه
معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام ، فأطلق عليها ربها
مجازا لذلك ،أو المراد بالرب المُربّي فيكون حقيقة وهذا أوجه الأوجه عندي
لعمومه ،ومحصله الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث
يصير المربى مربيا والسافل عاليا .
(149) الإبل البهم،وميم البهم يجوز ضمها على أنها صفة الرعاة ويجوز الكسر
على أنها صفة الإبل يعني الإبل السود وقيل إنها شر الألوان عندهم ،ووصف
الرعاة بالبهم إما لأنهم مجهولو الأنساب .
(150) الحفاة العراة رؤوس الناس .. ،أي ملوك الأرض والمراد بهم أهل
البادية قال القرطبي :المقصود الإخبار عن تبدل الحال بأن يستولي أهل
البادية على الأمر ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى
تشييد البُنيان والتفاخر به.
الحديث والخمسون
"باب فضل من استبرأ لدينه "
(151) باب فضل من استبرأ لدينه وعرضه ، كأنه أراد أن يُبيّن أن
الورع من مكملات الإيمان ، فلهذا أورد حديث الباب في أبواب الإيمان .
(152) وبينهما أمور مشبهات ، أي:شُبهت بغيرها مما لا يتبين حكمها
على التعيين.
(153) لا يعلمها كثير من الناس ، أيْ لا يعلم حكمها ، ومفهوم قوله
"كثير"أن معرفة ذلك ممكن لكن للقيلٍ من الناس وهم المجتهدون
،فالشبهات على هذا في حق غيرهم ، وقد تقع لهم حيث لا يظهر لهم
ترجيح أحد الدليلين .
(154) فقد استبرأ ، أي: برأ دينه من النقص وعرضَه من الطعن فيه ،
لأن من لم يُعرف باجتناب الشبهات لم يسلم لقول من يطعن فيه ،فمن لم
يتوقّ الشُبه في كسْبه ومعاشِه فقد عرض نفسه للطعن فيه،وفي هذا
إشارة إلى المُحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة.
(155) فمن وقع في الشُبهات ، حاصل ما فسر به العلماء الشبهات
أربعة أشياء أحدها :تعارض الأدلة ، ثانيها:اختلاف العلماء وهي منتزعة
من الأولى ، ثالثها:أن المُراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل
والترك، رابعها:أن المراد به المباح،والذي يظهر لي رجحان الوجه
الأول ،ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا ويختلف ذلك باختلاف
الناس.
(156) وقع في الشبهات، نقل ابن المنير عن شيخه القباري عنه أنه
كان يقول: المكروه عُقبة بين العبدِ والحرام ،فمن استكثر من
المكروه تطرق إلى الحرام ، والمباح عقبة بينه وبين المكروه فمن
استكثر منه تطرق إلى المكروه. وهو منزع حسن.
(157) وقع في الحرام ، ولا يَخفى أن المُستكثر من المكروه تصير به
جُرأة على ارتكاب المنهي في الجُملة ، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي
غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه.
(158) كراع يرعى حول الحمى ، في اختصاص التمثيل بذلك نكتة
وهي أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصّة
ويتوعّدُون من يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة ، فمثل لهم النبي -صلى
الله عليه وسلّم- بما هو مشهور عندهم فالخائف من العقوبة يبعد عن
ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه فبُعده أسلم له ، ولو
اشتدّ حذره ، وغير الخائف يقرب منه ويرعى حوله فلا يأمن أن تنفرد
الفاذة فتقع فيه بغير اختياره ، أو يمحل المكان الذي هو فيه ويقع
الخصب في الحمى فلا يملك نفسه أن يقع فيه.
فالله هو الملك حقا وحماه محارمه.
(159) ألا وإن في الجسد مضغة ،خصّ القلب بذلك لأنه أمير البدن
وبصلاح الأمير تصلح الرعيّة وبفساده تفسُد .
وفيه تنبيهٌ على تعظيم قدر القلب والحث على صلاحه ، ويستدل بهذا
على أن العقل في القلب.
الحديث الثالث والخمسون ، "وفد عبد القيس"
(160) مرحبا بالوفد ، قال النووي :الوفد الجماعة المختارة للتقدم في
لقي العظماء ، "مرحبا"آي:صادفت رُحبا أي: سعة والرَحب بالفتح
الشيء الواسع وقد يزيدون معها "أهلا"أي وجدت أهلا فاستأنس.
(161) غير خزايا ،المعنى أنهم أسلموا طوعا من غير حرب أو سبي
يخزيهم ويفضحهم "ولا ندامى"قال ابن أبي جمرة: بشّرهم بالخير عاجلا
وآجلا لأن الندامة إنما تكون في العاقبة فإذا انتفت ثبت ضدّها.
(162) إلا في الشهر الحرام ، المُراد بالشهر الحرام الجنس فيشمل
الأربعة الحرم ،وقيل: اللام للعهد والمراد شهر رجب، والظاهر أنهم كانوا
يخصّونه بمزيد التعظيم مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى
،وفيه دليل على تقدم إسلام عبد القيس على قبائل مضر الذين كانوا
بينهم وبين المدينة.
(163) فأمرهم بأربع ،أي:خصال ،قال القرطبي: قيل إن أول الأربع
المأمور بها إقام الصلاة وإنما ذكر الشهادتين تبرّكا بهما لأن القوم كانوا
مؤمنين بالله مقرين بكلمتي الشهادة ، ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان
مقصور عليهما كما كان الأمر في صدر الإسلام.
(164) فإن قيل: ظاهر ما ترجم به المصنف من أن أداء الخُمس من
الإيمان يقتضي إدخاله مع باقي الخصال في تفسير الإيمان والتقدير
المذكور يخالفه؟ أجاب ابن رشيد بأن المطابقة تحصل من جهة أخرى
وهي أنهم سألوا عن الأعمال التي تدخل الجنة ، وأجيبوا بأشياء منها
أداء الخمس ،والأعمال التي تدخل الجنة هي أعمال الإيمان فيكون أداء
الخمس من الإيمان بهذا التقرير.
(165) آمركم بأربع ،قال القاضي أبو بكر:يحتمل أن يُقال إنه عد
الصلاة والزكاة واحدة لأنها قرينتها في كتاب الله وتكون الرابعة أداء
الخمس ، أو أنه لم يعد أداء الخمس لأنه داخل في عموم إيتاء الزكاة
والجماع بينهما أنهما إخراج مال معين في حال دون حال.
(166) الحكمة في الإجمال بالعدد قبل التفسير أن تتشوّف النفس إلى
التفصيل ، ثم تسكنَ إليْه وأن يحصل حفظها للسامع ،فإذا نسيَ شيئا من
تفاصيلها طالب نفسه بالعدد فإذا لم يستوفِ العدد الذي في حفظه علم
أنه قد فاته بعض ما سمع.
(167) المعتمد ما ذكره القاضي عياض: من أن السبب في كونه لم
يذكر الحج لأنه لم يكن فرض.
(168) ونهاهم عن الحنتم ،عن عطاء : أنها جِرار كانت تعمل من طين
وشعر ودم "والدباء"هو القرع قال النووي :والمراد اليابس منه
"والنقير"أصل النخلية يُنقر فيتخذ منه وعاء
"والمزفت"ما طلي بالزفت
ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع فيها
الإسكار فربما شرب منها من لا يشعر بذلك ، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ
في كل وعاء مع النهي عن شرب المسكر .
الحديث الرابع والخمسون "الأعمال بالنية والحسبة"
(169) باب ما جاء في أن الأعمال بالنية والحسبة :دلّ على أن
الأعمال الشرعيّة مُعتبرة بالنية والحِسبة ، والمراد بالحسبة طلب الثواب
، وأدخل قوله والحسبة بين الجملتين للإشارة إلى أن الثانية تفيد ما لا
تفيد الأولى .
(170) والوضوء ،أشار به إلى خلاف من لم يشترط فيه النية كما نقل
عن الأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهما ، وحجّتهم أنه ليس عبادة مستقلة
بل وسيلة إلى عبادة كالصلاة،ونوقضوا بالتيمّم فإنه وسيلة ، وقد
اشترط الحنفية فيه النية ،واستدل الجمهور على اشتراط النية في
الوضوء بالأدلة الصحيحة المصرحة بوعد الثواب عليه ،فلا بد من قصدٍ
يُميزه عن غيره ليحصل الثواب الموعود.
الحديث السادس والخمسون " إنك لن تنفق نفقة تبتغي....حتى
ما تجعل في في امرأتك"
(171) تبتغي –أي تطلب- بها وجه الله ،استنبط منه النووي أن الحظ
إذا وافق الحق لا يقدح في ثوابه ، لأن وضع اللقمة في فيّ الزوجة يقع
غالبا في حالة المداعبة ومع ذلك إذا وجه القصد في تلك الحالة إلى
ابتغاء الثواب حصل له بفضل الله.
(172) في في امرأتك ، وإذا كان هذا بهذا المحل –مع ما فيه من حظ
النفس-فما الظن بغيره مما لا حظ للنفس فيه؟
قال النووي: تمثيله باللقمة مبالغة في تحقيق هذه القاعدة لأنه إذا ثبت
الأجر في لقمة واحدة لزوجة غير مضطرة فما الظن بمن أطعم لقما
لمحتاج ،أو عمل من الطاعات ما مشقته فوق مشقة ثمن اللقمة الذي هو
من الحقارة بالمحل الأدنى
الحديث السابع والخمسون "بايعت رسول الله..والنصح لكل مسلم"
(173) قال :باب الدين النصيحة : يُحتمل أن يحمل على المبالغة أي
معظم الدين النصيحة ، قال الخطابي:النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة
الحظ للمنصوح له ، وهذا الحديث من الأحاديث التي قيل فيها إنها أحد
أرباع الدين.
(174) قال النووي:والنصيحة لله وصفه بما هو أهل والخضوع له
ظاهرا وباطنا والرغبة في محابه بفعل الطاعة والرهبة من مساخطه
بتركِ معصيته ، والجهاد في رد العاصين إليه.
(175) والنصيحة لكتاب الله تعلّمه وتعليمه ، وإقامة حروفه في التلاوة
وتحريرها في الكتابة ، وتفهم معانيه ، وحفظ حدوده والعمل بما
فيه وذب تحريف المبطلين عنه.
(176) والنصيحة لرسوله تعظيمه ، ونصره حيا وميتا وإحياء سنته
بتعلمها وتعليمها والاقتداء به في أقواله وأفعاله ، ومحبته ومحبة أتباعه
(177) والنصيحة للأئمة المسلمين إعانتهم على ما حمّلوا القيام به
وتنبيههم عند الغفلة ، وجمع الكلمة عليهم، ومن أعظم نصيحتهم دفعهم
عن الظلم بالتي هي أحسن ، ومن جملة أئمة المسلمين أئمة الاجتهاد
وتقع النصيحة لهم ببث علومهم ونشر مناقبهم.
(178) والنصيحة لعامة المسلمين الشفقة عليهم والسعي فيما يعود
نفعه عليهم وتعليمهم ما ينفعهم
انتهى كتاب الإيمان
يتبع إن شاء الله...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق