السبت، 7 سبتمبر 2024

الثّمار الزكيّة من شرح الطحاويّة

                                                           

                                                             بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسّلامُ على رسول الله، وبعد…

فهذهِ ثمارٌ قطفتُها من بُستانِ العِلم من شجرة ثَمراءَ مُباركة، حُلوة المذاق، اقتـنيْتُ منها أربعينَ ثمرة زكيّة طيّبة، تنفع المرء في دينهِ لا في بطنه!

وإن كان بقيَ على تلكَ الشجرة بعض الثّمار لكن هذا الذي استحسنتهُ، ورأيتُ فيه الحاجةَ والنّفع.

وهذهِ سلّتي أحِبُّ أن يُشاركني فيها المُحبُّ للعلم، وأن يتذوّق منها الراغبُ فيه، ولا سيما وهو هذا العلم العظيم؛ علمُ توحيد لله عز وجل.

وأصلُ هذا الخير من شيخنا العلامة: يوسف الغفيص -حفظهُ الله- من شرحهِ لمتنِ الطحاوية، لأبي جعفر الطّحاوي رحمه الله.

الثّمار الزكيّة من شرح الطحاويّة

الثمرة الأولى: (مُعتقد الإمام أبي حنيفة -رحمهُ الله-)

 تكلّم الناس في مذهب الإمامِ أبي حنيفة -رحمهُ الله- في أصول الدّين، وتجد في بعض الكُتب أُضيفَ للإمام أبي حنيفة بعض هذهِ المسائل مخالِفًا فيها مذهب السلف، وكان سبب بقاء هذا التردّد في شأن أبي حنيفة هو أنّ أصحابهُ من بعدهِ هُم أكثر أصحاب الأئمة الأربعة اختلافًا وافتراقًا في أصولِ الدّين..

فالمَاتريدي حنفي؛ والماتريدية تبعٌ له أحناف، وأبو منصور الماتريدي هو من أعيَانِ عُلماء الكلام، ومعلوم أنّ ما قررّه في كتُبه كالتوحيد وغيره ليسَ هوَ مُعتقدَ السلف، بل إنّ مذهب أبي الحسن الأشعري هُـوَ خيرٌ من مذهب أبو منصور بإجماع السلف.

والكرّامية أتباع محمد بن كرّام السجستاني الذين مالوا إلى التّشبيه هُـمْ أحناف في الجُملة، وخلْقٌ من الأشعريّة حنفية، وطائفةٌ من المُعتزلة ولا سيما متأخّريهم كثُر انتمائهُم لمذهب أبي حنيفة..

فضلاً عن طوائف من الصُّوفية التي انتحلت مذهب الإمام أبي حنيفة، ومن حيث الجُملة فكثيرٌ من هذا الانتحال يكون في الفقه، -أصول أبي حنيفة في الفقه ومسائله- ولكنّ كثير منهم يُتبِعونَ ذلك في مسائل أصول الدين .

ومن حيث التصنيف، فلم يَثبُت لأبي حنيفة كتاب واحد في أصول الدين، والمُتحقق أن كتاب "الفقه الأكبر"ليس لأبي حنيفة، بل كَتبه بعض علماء المذهب فيما بعد، ونسبهُ بعضهم إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله .

والمتحقق أنّ أبا حنيفة كان على مُعتقد أهل السُنة والجماعة، ولم ينضبط مُخالفتهُ لشيء من أصول السلف إلّا في ما يتعلّق بقولهِ في مسألة الإيمان..

فالصّحيح أنّ أبا حنيفة يقول في هذا المذهب الذي مُعْتبرهُ: "أنّ الإيمان هُوَ التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وأنّ العملّ ليس داخلاً في مُسمّى الإيمان" ، وما أُضيف إليه غير ذلك كما في بعض الكُتب لم ينضبط عنه، وعليْه فلا يُمثّل الأحناف مذهبَ الإمام أبي حنيفة .

فالإمامُ أبو حنيفة يُضاف إلى أهل السنة والجماعة، وإمامتهُ في الفقه مُجمعٌ عليها بيْن سائر علماء المسلمين، وكذلك أصوله -رحمهُ الله- فإنّها أصول الأئمة. 

الثّمرةُ الثانية: ( مُعتقد الإمام أبي جعفر، ورِسالته)

رسالة الإمام الطحاوية هذهِ تُمثّل مذهب ومُعتقد السلف، وصار لهذه الرّسالة ذيوعٌ وشيوع، لكن فيها بعضُ المسائل التي قد يُتردد في صحّتها وانضباطها، فقد أجْـمَلَ الطحاوي بعضَ المسائل التي هِيَ محل نِزاع بيْن المُتأخرين، ولربما عبّر بأحرف عُرِفت عن خلْقٍ من المُتكلّمين، كأحرفِ أبي الحسن الأشعري، فبعض العبارات لم تكن صريحة في إبطال مذهب الأشعريّة على التفصيل، بل فيها جُمَل مُقاربة للمذهب.

وهذه الرّسالة قد شرحها جُملة من الأحناف على الطريقة الأشعرية تارة، وعلى الطريقة الماتردية تارة، وشرحها أبو العِز الحنفي على ما هو معروف عن الأئمة والسلف.

 ولهذا الإجمال في هذهِ الرّسالة؛ أمْكنَ لكثير من شُرّاحها أن يَصرِفوا بعضَ جُمَلِها إلى مفصّل مُعتقد مذهب الأشعرية، أو إلى مفصّل معتقد مذهب الماتريدية، فهذهِ الرّسالة مُعتَبَرة عند الأشاعرة، وعند الماتريدية، وعند أصحاب السنّة من أتباع السلف.

ومن حيثِ التّراتيب فالرسالة من حيث التّراتيب العلميّة مُقاربة للتّراتيب الأشعرية وهذا لِبيان سبب ذُيوع هذهِ الرّسالة، لكن تبقى في الجُملة من رسائل المُعتقد السلفي الصحيح، وعليه فالاعتناءُ بها يكون فاضلاً من جهة تقريرِ مُعتقد السلف، ومن جهة الدعوةِ إليه.

الثمرة الثالثة: (مدرسة الإمام أبي الحسن الأشعري -رحمهُ الله-)

أخصّ مدرسةٍ حصل بمُوجبها الغلَط، هيَ مدرسة أبي الحسن الأشعري، فترى كثيرا من الشافعية والمالكيّة والأحناف على مذهب أبي الحسن في مسائل أصول الدّين، ومذهبهُ فيه موافقة لأهل السُنّة وفيهِ مُخالفة، ولكنّ أصحابهُ من بعده باعدوا عن طريقته إلى طريقة قومٍ من المُعتزلة، فالأشاعرة أبعدُ عن طريقة السلف ومقالاتِهم من الأشْعريّ نفسه.

 الثمرة الرابعة: (أدلّة تقرير توحيد الرّبوبية نتجَ منهَا تعطيل الصّفات عند المُتكلمين)

كثير من المتأخّرين ولا سيما المُتكلّمين إذا قرّورا مسألة الاعتقاد وأصول الدين، فإنّهم يبتدأون في ذكرِ توحيد الربوبيّة لأنهم يعتقدون أنّ القولَ في الصفات وما يلتحقُ بها يكون فَرعًا عن هذا التقرير، هذا الاعتبار لا إشكال فيه من حيث الأصل، لكنّ الغلط الذي وقع فيه المتكلمون هو أنّهم لم يُحِقّقوا توحيد الربوبيّة إثباتًا إلّا بنوع من الأدلة التي تستلزم تعطيل الصفات أو ما هوَ منها، فالنتيجة:-

إنّ نفيَ الصفات عند المعتزلة، أو نفي طائفة من الصفات كما هو عند الأشاعرة والماتريدية جاء نتيجة لتقرير مسألة الربوبية بأدلّة تستلزم تعطيل الصفات أو بعضها.

ولأنك ترى أن توحيد العبادة لا يُذكر في كُـتب المتكلمين كثيرًا، ليس لأنّهم يروْن جواز الشرك، وإنّما من جهة أنّهم يَعتبرون أنّ مسائل الصفات وما يتعلَق بها من المسائل يرتبط تقريرهُ بمسألة الربوبية، فلا بد من تقرير توحيد الربوبية ثُمّ بعدَ ذلك تُقرّر مسائل الصفات والأفعال إلى غير ذلك، فترى في كُتب هذه الطوائف من المُتكلّمين تقرير توحيد الربوبيّة بأدلّة صحيحة، لكنهّم لا يكتفون بها بل يذكُرون هذه الأدلة الصحيحة ويذكرونَ أدلّة أُخرى تستلزمُ هذا التعطيل للصفات أو تعطيل ما هو منها.

ومن هذا المُوجب صار ذكرُ توحيد العبادة والطاعة ليسَ شائعًا ومعروفًا في كُتب علماء الكلام، لأنّهم يرون أنها مسألة مُنفكّة، ويروْن أنّها مسألة ليس لها اتصال بهذا التقرير الذي اعتبروه، وهذا من أوجه غلطهم في تقرير هذا التوحيد.

الثمرة الخامسة: (الإجمال والتفصيل في الإثبات والنّفي)

من قواعد أهل السّنة والجماعة في الصفات أنهم يقولون: إنّ الله موصوف بالإثبات والنفي، والإثبات يقعُ مفصّلا ويقع مُجملاً، ولكن الأصل فيه في القرآن التفصيل، والنفيُ يقع مفصلا ويقع مُجملا لكن الأصل فيه الإجمال.

 أما الإثبات المُفصّل فهو ما ذُكر في القرآن من ذكر أسماء الرب تعالى كقوله: {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام...} إلى غير ذلك، وفي الصفات كقوله: {يُحبّهم ويُحبّونه} إلى غير ذلك.

ويقعُ الإثبات مجملا، في الأسماء كقوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى} فهذا إثبات مُجمل، والإثبات المُجمل في الصفات كقوله: {ولله المثلُ الأعلى}

والنفي المُجمل في القرآن كما في قوله تعالى: {ليسَ كمثله شيء}

أما المفصّل فهو المذكور في قوله تعالى: {لا تأخذه سِنة ولا نوم} والنفي المجمل هُو الأصل، أمّا المفصّل فهو فرعٌ عن الإثبات، فليس في القرآن نفيٌ مُفصّل يُراد به النفي المحض -الذي لا يتضمّن أمرًا ثبوتيًا- فقوله: {لا يظلمُ ربّك أحدا} أي: لكمال عدْله، فتضمّن نفيُ الظلم إثباتَ العدل.

طريقة المتكلمين تَعتبر التفصيل في النفي والإجمال في الإثبات، وهيَ طريقة مُخالفة للقرآن وللعقل، فالنفي المحض الذي يستعملونه لا يدل على الكمال، لذلك سمَّى السلف أصحاب هذه الطريقة بـ المُعطّلة.

الثمرة السادسة: (هل يُستعمل لفظ القياس في حق الله تعالى؟)

مصطلح القياس من حيث اللغَة العربيّة ،مُصطلح يقتضي نوعا من التشابه أو التماثل أو إلحاق شيء بشيء ، فلم يكن معتبَرا في مسائل الصفات ، لكن لما تكلّم أهل الاصطلاح بمُصطلح القياس على معنى قياس الشّمول ، وقياس التمثيل ، وقياس الأولى ، صار كثير من أهل الكلام يعتبرون مذهبهم بنوع هو عندَ التحقيق من قياس الشّمول ، أو قياس التمثيل ، مع أنهم لا يُسلِّمون بذلك ، فلما وردت مسألة القياس هل تُستعمل بحق الله تعالى؟

 قال من قال من المُتأخرين من أهل السنة والجماعة "إنهُ يُستعمل في حقّه سبحانه وتعالى قياس الأوْلى" وهو على معنى "أن كلّ كمال مطلق لا نقصَ فيه بوجهٍ من الوجوه ، فإن الخالق أوْلى به " مأخذُهم في هذا القياس قوله  {وللهِ المثلُ الأعلى} وتسميتهُ مثَـلًا أصح اقتداءً بحرف القرآن،وينبغي أن لا يُسمّى قياسًا ، إلّا إن قُصد بذلك البيان للمُخاطب ، ولأنّ القياس حصل به إجمال واشتراك ، وجمهور صور القياس لا تليقُ بالله تعالى.

الثمرة السابعة: (استعمال الألفاظ الحادِثة)

قال الماتن: (قديمٌ بلا ابتداء) لفظُ القديم لم يرِد في الكتاب ولا في السنة، وهوَ الذي استعملهُ المتكلّمون، وكان ينبغي من المُصنّف أن لا يُعبّر بها، ولا سيما أنّ الحرف القرآني المُناسب لهذا المقام مُتحقق، قال تعالى: {هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن..} فكان ينبغي أن يقول هو: الأول بلا ابتداء، ذلك أنّ لفظَ القديم لم يرِد، وذلك أنّ لفظَ القديم مُجْمل.

 وهنا نقول: إن الله يوصَف بما وصَف به نفسهُ، أو وصفه به رسوله من الأحرف القرآنية، والكلمات النبوية، لا بدّ من الاقتداء بهذهِ الأحرف والكلمات، وأمّا الأحرف الحادثة المُجملة التي تحتمل حقًا وباطلاً فعند أهل السنة التوقّف فيها، والتفصيل في معناها، فعليه كل لفظ مُجْمل حادث فإنه لا يُطلق إثباتا ولا نفيًا، بل يُستفصل في معناه، فإن كان أريد بهِ حقا قُبِل وإن كانَ باطلًا رُدّ.

والمُراد باللفظ الحادث معلوم، وهو: الذي لم يُذكر في الكتاب ولا في السنّة، وأمّا الإجمال فالمقصودّ به هو: أن يكون اللفظ مُحتملا لغير معناه، أو يحتملُ ألفاظًا مُتضادّة، وتارة الإجمال يكون بأصل الوضع، وتارة يكون مُجملا موجِبهُ من حيث الاستعمال .

وعليه فإذا عُبّر عن مسألة عن أهل السنة والجماعة فلا يصحّ فيها أن تُستعمل الألفاظ المُجملة، وإنّما يُمكن أن تُستعمل في مقام مُخاطبة أهل الاصطلاح الذين لم يعرفوا إلّا هذا الاصطلاح.

 الثّمرة الثامنة: (معنى الحِكمة عند الأشاعرة)

قال الماتن: (خالقٌ بلا حاجة) هي جُملة فيها إجمال من حيث الاستعمال، والظن المُتحققّ أنّ مرادَ الطحاويّ بها المُراد الصحيح، لكن اللفظ هو لفظٌ كان لا ينبغي أن يُعبّر به لأن الإجمالَ دخلَهُ من جهة الاصطلاح، حيثُ أن علماء الأشاعرة لمّا أرادوا الكلام في مسألة الحكمة، فسّروها بالإرادة، ومعنى الحكمة عند الأشاعرة في مقتضى اللغة سمّوها "غرَضا وحاجة"، فالحاجة والغرض مُرادهم هو معنى الحكمة المعْروف في كلام السلف، فهم ينفونها تحت لفظ الغرض والحاجة،

فقولهُ: خالق بلا حاجة حرفٌ فيه نظر، بل يُقال هو الخالق وهو مستغنٍ عن خلقه، ولكنّه خلق الخلقَ لحكمة، فكل خلق وأمرٍ فهو لحكمة منه سبحانه وتعالى.

الثمرة التاسعة: (الاعتناء برسالة الطحاوية مع إجمالها)

الرسائل المكتوبة في مُعتقد أهل السُنة والجماعة على قسميْن، طائفة منها رسائل مُفصّلة كرسائل شيخِ الإسلام ابن تيمية، فرسائلهُ صريحة في مخالفة الأشاعرة، وطائفةٌ منها رسائل مُجمَلة، لكن لما صار لبعض هذه الرسائل قدرٌ وذيوع فمنِ الفقه أنّ هذا الإجمال فيها لا يكون موجبًا لتركِها حتى لو كان الإجمالُ غلطًا ومُوهما، ولا سيما في نشرها لتقرير مذهب أهل السنة عند المُخالفين لهذا المذهب، فالرسالة هذه شرحها الأشاعرة وشرحها الماتريديّة ، وشرحها أهل السنة ، ولا شك أنّ رسائل الإمام ابن تيمية أشرف وأكثر تحقيقًا وبيانًا من رسائل أبي جعفر الطحاوي -رحمه الله-.

الثمرة العاشرة: (أوّل من نفَى الصفات)

أول مخالفة ظهرت في الأصل العظيم وهو من أخص أصول الإيمان -الأسماء والصفات- لمّا أظْهر الجعد بن درهم مقالة التعطيل، فزعَم أنّ الله ليس له صفة، فلا يوصف بشيء ولا يُسمّى باسم، وشاركه بعد ذلك المُعتزلة والجهم بن صفوان، وصارت هذه المقالة تُسمّي عند السلف مقالة الجهميّة نسبةً للجهم بن صفوان، لأنهُ هو الذي أشَاعها وأذَاعها ونشرها، وإن كان أول من بدأها حسب النقل التاريخي هو الجعد بن درهم.

الثمرة الحادي عشر: (مذهب الجهمية، وما يُخالفون به المُعتزلة)

يشارُ إلى أنّ لفظَ الجهميّة أو التجهّم عندَ المتقدّمين من أهل الحديث لا يُعنى به ضرورةً أتباع الجهمِ على سائر أصوله، وإنّما يُعنى بهم كل من نفى الصفات، سواءً كان جهميًّا من حيث الأصول أو لم يكُن كذلك، وحين نقول -سواءً كان جهميًا من حيث الأصول- ذلك أن المُعتزلة تشاركُ الجهم في نفي الصفات، لكنّ علماء المعتزلة يُكفّرون الجهم ابن صفوان، وتكفيرهم إيّاه ليس من جهة مسألة الصفات بل من جهة مسائل أخرى.

فبيْنَ الجهم بن صفوان وأتباعهِ المُختصّين به، وبيْنَ المُعتزلة فُروق في الأصول، فتعلَم أنّ المُعتزلة وعيديّة في مسألة الإيمان والأحكام، وأنّ الجهم على النقيض من ذلك فهو على مذهب الإرجاء، ومن مقالاتهم المعروفة "لا يضرّ مع الإيمان ذنب"، وكذا في القدر فالجهم جبريٌّ، وهو من الغلاة في مذهب الجبر، في حين أن المُعتزلة قدرية..

وكذلك في مسألة الأسماء والصفات، فبينهم اشتراك وبينهم افتراق، فالمعتزلة تُقرّ بأصل الأسماء، في حين أن الجهم لا يقرّ بالأسماء ولا بالصفات.

الثمرة الثانية عشر: ( الإمام أبي الحسن الأشعري)

الأشعري أصلهُ مُعتزلي، ومضَى في الاعتزال طويلا، ثم رجعَ عن الاعتزال، (ولا خلاف بيْن الناس في أنّهُ كان معتزليًّا) وإنّمَا الذي حصلَ بهِ تردّد وكلام هو إلى أيّ شيء رجع الأشعري ؟ 

قيل:بعد الاعتزال رجع كُلّابيا ثم رجع سُنّيا، وهذا غلط محض..

والصواب: أنّ الأشعري من حيث الانتماء ليس لهُ إلّا أحد مذهبين:-

الأول:الاعتزال، ولما تركه انتحل وانتمَى إلى مذهب أهل السنة،-هذا من حيث الانتماء والانتحال- لكن من حيث الحقيقة العلميّة فإنّ الأشعري لما ترك الاعتزال كان علمهُ بالكلام وأصوله ومقالات المُتكلمّين علما مفصّلا، وكان علمه بمقالات السلف علما مجملاً ، وأخذ مذهب السنة عن بعض حنبلية بغداد، فلِكون العلم الذي كان عنده -علمًا مُجملًا- لم يُحقّق ذلك فهو لم يخْلُص إلى السنة المحضة إلى آخر كتبه، بل بقيت بعض المسائل مختلطة عليه كالصفات والقدر والإيمان..

 فهو في الصفات على طريقة ابن كُلّاب، بل إن ابن كلّاب أجود حالٍ من الأشعري، فابنُ كلاب في مسألة الغضب والرضا ونحوها من الصفات يُثبتها، ويقول:إن الله موصوفٌ بالغضب لكنه واحدٌ أزليّ، فلا يفسّرها بالإرادة، بل يُثبتها صفة أزليّة، في حين أن الأشعري يُفسّر الغضب والرضا بصفة الإرادة، هذا حال الأشعري في باب الصفات.

وفي القدر فإن الأشعري أبطلَ الجبر لفظا، وأبطل مذهب القدريّة المعتزلة، لكنه قال بالكسب؛ فوافق السنة والجماعة لفظًا، ولكنّه لمّا فسّره فسره تفسيرًا جبرًيا، فهو جبري لكنه جبر دون الجبرية المحضة.

 وفي مسألة الإيمان يقول الإيمان هو التصديق، وفي قوله هذا يُقارب غُلاة المُرجئة وإن كانَ ليسَ مِثلهم .

وفي آخر كتُبه صار يتباعد عن المسائل المفصّلة التي لم يُحْكمها، وينطق بالعبارات السلفية المُجملة ، ولا يتكلم بتفصِيلها فيترُكها على الإجمال، فلهذا صار مذهبهُ مُشْكلًا.

الثمرة الثالثة عشر: (أزليّة الصفات عند المذاهب)

المُتحقّق عند أهل السنة والجماعة أنّ الله سبحانه وتعالى موصوف بالصفات الأزلية، وأنّ فعله لا أوّل له، بل لم يزل فاعلاً، ولا يصحّ بإجماع أهل السلف أن يُقال إنّ الفعل حدث له بعد أن لم يكُن، فالمذاهبُ ثلاثة :-

مذهب السلف الذين يثبتون أزلّية الصفة، وأزليّة الأفعال، فلم يزل الرب فاعلًا، ولم يزل مُتصفا بصفات الكمال، وأفعالهُ من صِفاته .

مذهب المعتزلة الذين يُنفون أزلية الصفات، ويُقولون إنّ الفعل حدَث بعد أن لم يكن، وهذا تعطيل محض، وهو مذهب الجهمية.

مذهب الأشاعرة الذين يقولون بأزليّة الصفة وحدوث الفعل، (وعِبارتهم المشهورة قِدَم الصفات) يتفقون منها على سبع: الكلام الحياة والبصر والسمع والإرادة والعلم والقُدرة.

فهُم يتّفقون مع السلف بأزليّة الصفات -اتفاقا مُجملا-، ولكن يختلفون في الفعل، لكن حتى الاتفاق بينهم وبين السلف ليس هو من كل وجه، فبينهما فرقٌ من حقيقة ما يُثبَت من هذه الصفات، ومن جهة ما تضمنّه الصفة من الفعل، كالكلام مثلا فإن السلف يقولون: إن الله لم يزل مُتكلما أو موصوفا بصفة الكلام، والأشاعرة يقولون: إن الله لم يزل موصوفا بصفة الكلام ومعناه عندهم معنى واحد قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت! 

يرى شيخ الإسلام: أن الله لم يزل مُتصفا بالفعل، وأن كل فعلٍ هو من جهة آحاده مسبوقٌ بفعلٍ قبله، وأنّ الفعل من حيث آحاده لا أوّلَ له، ولا يلزم على هذا قِدمُ شيء من المفعولات، لأنّ كل فعل مسبوق بفعلٍ قبله، هذا المذهب الذي قرره شيخ الإسلام وحكى أنه الإجماع عند أئمة السنة المتقدمين.

الثمرة الرابعة عشر: (علم الرب قبل وقوع الفعل وبعده)

قال الله تعالى: {إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه..}

قال شيخ الإسلام رحمهُ الله: العلمُ بالشيء موجودًا باتفاق العُقلاء ليس كالعلمِ به مُقدّرًا.

 فلا شك أنّ الله عَلِم ما كان وما سيكون، لكن قوله: { إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.}هذا من إثبات العلم وأن الله موصوف بالعلم أزلًا، وأنّ العلم بالشيء موجودًا ليسَ كالعلم به مقدّرا، وابن كُلّاب والأشعري لا يُثبتون هذا الفرق، وهذا فرع عن قولهم:إن العلم واحد أزلي ، فكانوا يروْن أنّهُ لا فرق في أفعال الربّ سبحانه قبل الفعل وبعده .

الثمرة الخامسة عشر: (الاشتراك في الاسم لا يلزم التماثل)

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وجمهور الغلط الذي حار فيه كثير من الأذكياء في مسألة الصفات هو ظنّهم أن الاشتراكَ في الاسم المُطلق يلزم منهُ المماثلة عند الإضافة والتخصيص"

الاسم المُطلق: -ملك -رضَا- محبّة- فالمُطلق أي: غير مقيّد غير، مُخصّص، غير مضاف، لكن إذا أضيف -رضا الله- صارت الصفة متعلقة بموْصوفها، وإذا قلت -رضا زيد- صارت الصفة متعلقة بموصُوفها، فيصير الرضا اللائق بالله يمْتنع أن يكونَ هو الرضا اللائق بزيد لأن بيْن الموصوفين تَباينا.

وإذا كان الاشتراك في الاسم الواحد بيْن المخلوقات لا يلزم منهُ تماثُلها، فبيْن الخالق والمخلوق من بابِ أوْلى  .

 الثمرة السادسة عشر: (أصول الإيمان بالقدر ومُخالفة أهل البدع)

اتفقَ المُسلمون على أنّ من أصُول الإيمان بالله؛ الإيمان بقضَائه وقدره، وهذا مُجمَع عليه بيْن طوائف المُسلمين من حيث هو أصلٌ كلّي، وأهل السنة والجماعة أصولهم في القدر سبعة:-

الأصل الأول: الإيمان بعموم عِلْم الربّ سبحانه وتعالى، فإنّه قد علِم ما كان وما سيكون، وما لم يكُن لو كانَ كيف سيكون، وهوَ أشرفُ أصُول القدر، وأخصّها عند المُسلمين، وسائر الأصول مبنيّة عليه، ودخل في عموم علمهِ: علمهُ بأفعال العباد قبل كونها..

ظهر قومٌ من غلاة القدريّة يزعمُون أنّ الله لا يعلَم أفعالَ العباد إلا عندَ كونها، وهذا القول كُفر، صرّح بكفر هذا النوع من القدرية بعض أئمة الصحابة الذين أنكروا هذه البدعة.

 الأصل الثاني: الإيمان بأنّ الله كتبَ في الذّكر كل شيء، كتابة الرزق والأجل والشقاوة والسعادة، ويدخل فيه الإيمان بما كُتب في صحُف الملائكة، وهذا أصل سمْعي لا يدل العقل ابتداء عليْه، فهو ليسَ أصلا فِطريًّا ولا علقليًا، ومعنى هذا أنه لولا أنّ الله أخبَرنَا بكتابهِ وحدّثنا النبيّ-صلى الله عليه وسلم- بهذا الأصل لمَا كان من شرطِ العقل أو اقتضاء الفطرة إثبات الكتابة، بخلاف الأصل الأوّل، هذا وإنما يقتضيه العقل بخبر الشرع أو النقل .

وهذا الأصل عامّة طوائفِ المُسلمين يُقرّون بهِ مُجملاً، ويكُون الفرق بينهم وبين أهل السنة أنّ أهل السنة يُقرّون بهذا الأصل على ما فصّلتهُ النصوص، وفرقٌ بيْن من أقرّ بالأصل مُجملاً، وبيْن من أقرّ به مُفصّلا .

  الأصل الثالث: الإيمان بعُموم خلْقه سبحانه وتعالى، وعبّر بلفظ العموم لأن إثبات خلقهِ للخلق ثابت عند عموم المسلمين، وليس فيهِ من هذا الوجه الإشكال وإنّما المقصود الإيمان بخلقهِ لأفعَال العباد وهيَ مسألة النّزاع المشهورة، فمن أخرجَ أفعال العباد عن هذا الأصل فقد أخرجَ من هذا الأصل ما هُو منه بغير حجّة ودليل، وليس معنى ذلك عندَ أهلِ السنّة أنهُ هُو الفاعل لها، بل الفاعل لها هو العبد، فالعِباد فاعلون حقيقة، لكن الله هُو الخالق للعبد، وَالخالقُ لفعلهِ .

وقد وقعَ في هذا الأصل نزاعٌ وغلط كثير، وصارت جماهير من القدريّة يقُولون أنّ الله  يعلمُ بأفعال العباد قبل كونها وأنّهُ كتبها لكنها خلقٌ للعباد.

ثم قال جماهيرهُم ثلاثة أقوال: 1:قالت طائفة إن الله لم يخلقها وخلقها العبد، 2: إن الله لم يخلُقها ولا يُقال إن العبد خلقها، 3:وقالت طائفة منهم بالتوقّف، وعُمدة مذهبهم أنّ الله لم يخلق أفعال العباد .

والقدريّة صنفان:-

الصنف الأول: متكلّموهم وأعوانُهم وفي الأصل همُ المعتزلة، ومن اقتدى بهم من متكلّمة الشيعة وغيرهم، الذين قرروا هذا المذهب(أن الله لم يخلق أفعال العباد) قرّروه تقريرا كلاميًا، أي: بالطريقة الكلامية؛ هذا صنف.

الصنف الثاني: وهم معشرٌ من رجال الرواية والإسناد، وأكثرهم في البصرة، وبعض في الأقاليم العراقيّة والشاميّة، قالوا بجُملة المسألة أنّ الله لم يخلق أفعال العباد، ولكنهم لم يقولوا هذه الجملة على معتبر الطريقة والدلائل الكلامية التي كانت تستعملها القدرية والمعتزلة المتكلّمة، فبيْن الصنفيْن اتفاق من وجهٍ واختلافٌ من وجه آخر .

الوجه الذي يتّفقون فيه: فإنّهُم يشتركون في أنّ أفعال العباد ليست خلقًا لله .

والذي يختلفون فيه: فهُو طريقة الاستدلال على المسألة، وأيضا:فإن المسائل التبّع لهذه المسألة كالنّعمة والهدي والإضلال إلى غير ذلك، لا يصحّ أن تُضاف إلى من غلطَ في أصل المسألة من رجال الرواية والإسناد، فيكون الصنف الثاني قولهم أخف من قولِ القدريّة . 

 الأصل الرابع: الإيمان بعُموم مشيئتهِ، ولا أحد يُنازعُ في كون الباري مُتصِفًا بالمشيئة، ويدخل في ذلك أفعالُ العباد فسائر أفعال العباد، هيَ بمشيئة الله سبحانه.

والمُخالفون في هذا الأصل هُم المخالفون في الأصل الثالث .

فالمعتزلة  تقول أن الله لم يشأ أفعال العباد ولم يُرِدْها، ويجعلون العبد خالقًا لفعله مستقلا بمشيئته.

 الأصل الخامس: الإيمان أنّ للعباد مشيئة على الحقيقة، فقد أثبت اللهُ لعبادهِ مشيئة ولكنّه قيّدها بمشيئته وإرادتهِ.

خالف فيه الجبرية، وإمامهم جبر بن صفوان، الذي يقول: إن العبد مجبور على فعله، وقاربَ مذهب الجبرية مذهب أبي الحسن الأشعري الذي يقُول إنّ للعبد مشيئة مسلوبة التأثير، يقعُ الفعل مقاربًا لها لا بها، وهذا جبرٌ دون جبرِ الجبريّة المحضة .

الأصل السادس:  الإيمان بأن سائر أفعاله سبحانه وتعالى وسائر خلقه وأمره لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى.

قال شيخ الإسلام: وحكمتهُ متعلّقةٌ بذاتهِ صفةً له، ومتعلّّقة لمفعولاته نعمة أو ابتلاء أو عقوبةً أو غير ذلك .

ونازعَ في هذا الأصل الجهم بن صفوان، فنفى الحكمة في أفعال الله، وتابعه أبو الحسن في ذلك، فجعل الجهم والأشعري في الجملة أفعال الباري مبنيّة على محض المشيئة، وإذا ذُكرت الحكمة في ألفاظ الشريعة فسّرها جمهورهم بالإرادة والمشيئة، والسلف يجعلون الحكمة صفة تقوم بذات الباري وهي مُتعدّية إلى خلقه، في حين أنّ المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة وغيرهم يجعلون الحكمة متعدّية إلى الخلق ولا يجعلونها قائمة بذات الباري.

 الأصل السابع: الإيمان بأن العِباد مأمُورن بما أمرَهم الله به، منهيّون بما نهاهم الله عنه، مع الإيمان بوعده ووعيده، وأنّه لا حُجّة لأحد من الخلق على الله، وأن عموم قدرهِ وقضائهِ وحكْمه لا يصحّ أن يكونَ معارضًا لشيءٍ من أمره وشرعه، ومحصّله أنّ السلف يؤمنون بالجمع بيْن مقام الشرع ومقام القدر.

والقدريّة من المُعتزلة ومن وافقهم فإنهم مُقصّرون في باب القدر -حيث يقولون إن العبد يخلق فعله- غالون في باب الشرع  -حيث قالوا إن مُرتكب الكبيرة في النار-، وأمّا الصوفية فإن طوائف منهم على العكس، مقصّرون في باب الأمر والنهي، غالون في باب القدر .

هذه الأصول التي عليها مبنى مذهب السلف رحمهم الله .

الثمرة السابعة عشر: (لا ينسب الشر لله تعالى ابتداء)

 الله تعالى خلق كل شيء ولكن الشرّ إذا ذُكر مفردًا فإنّه لا يُضاف إليه -سبحانهُ وتعالى-، وإن كان هو الخالق لأفعال العباد خيرا كانت أو شرًّا، لكن تخصيص الشر على الإفراد بالإضافة لا شكّ أنه غلط، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: "والشرّ ليسَ إليك "

 فلا يُنسب إليْه ابتداء على التخصيص، وإن كان يدخل في عموم خلقه فإنه خالق لكل شيء.

ثم إنّ هذا الشر إنّما كان شرًا من جهة العبد وإلا فإنّ أفعاله سبحانه عدلٌ ولحِكمة، فيضاف إلى العباد ولا يُضاف إلى الله تعالى.

الثمرة الثامنة عشر: (هل يدخل في الإسلام من شهد أن لا إلهَ إلا الله فقط ؟)

 تنازع العلماء بما يصحّ به الدخول إلى الإسلام، فلا شكّ أنه لا يكون مسلما من لم يؤمن بنبوة محمد ورسالته، وهذا محلّ إجماع بيّن، لكن محلّ النّزاع هو فيما لو قال عبدٌ:أشهد أن لا إله إلا الله، قالوا فهل بذكره شهادة أن لا إله إلا الله تلتحق به أحكام الإسلام؟ أم أنّ أحكام الإسلام مُقيّدة بذكره الشهادتين معا؟ 

 محصل الصواب في هذه المسألة: أنّ الحكم هنا له ظاهر أو باطن، أما من جهة الأحكام الباطنة، ويُعنى بها الحكم بيْن العبد وربه -سبحانه وتعالى- فمن قال لا إله إلا الله على المقصد من دخوله الإسلام، فإن هذا في الباطن يكون مسلمًا، فلو أدركه الموت ولم يقل أنّ محمدا رسول الله، أوقُتل كما يحصل ذلك في أحوال مختصّة فلا شك أنه في الباطن يكون مات على الإسلام، لأنّ تأخيره لذكرة شهادة أن محمدا رسول الله لم يكن عن تفريط .

أما من جهة الأحكام الدنيويّة: فهي محل النّزاع بين الفقهاء، والصّحيح من أقوالهم: أنّ من قال ذلك ولم يُدرك الثانية لمانعٍ فإنّ أحكام الإسلام تتعلّق بالأولى، فهذه المسألة محل النزاع فيها في الأحكام الظاهرة، أما الأحكام الباطنة فالشأن فيها مستقر.

الثمرة التاسعة عشر: ( دليلُ النبوّة)

جماهير طوائف المُتكلّمين يقولون إنّ دليل النبوّة هُو المعجزة، ثم فسروا المعجزة بما هو خارق للعادة على جهة التحدّي .

وكلامهُم غلط من جهتين:-

الأول: أنهم قصَروا دليل النبوة على المعجزة، ومن جهة أنّهم فسروا معجزات الأنبياء بالخوارق التي تقع على جهة التحدّي.

والذي اتفق عليه السلف أنّ النبوة لا يقتصر دليلها على المعجزات، بل تثبت بالمعجزة التي تُذكر في القرآن وتُسمّى آية، وتثبتُ بغير ذلك.

فنُبوة النبي-صلى الله عليه وسلم- تثْبت بدلائل كثيرة ومنها: المُعجزات هذا قول السلف، فالمعجزة عندهم إحدى دلائل النبوة، بعكس المُتكلّمين الذي يجعلون دليل ثبوت النبوة هو المعجزة.

ولما قصروا دليل ثبوت النبوة على ثبوت المعجزة، نفَى طوائف منهم كرامات الأولياء، ونفى طائفة منهم حقيقة السحر، حتى لا  يكون اختلاط بين دليل النبوة وغيره.

 ولا شك أنّ كرامات الأولياء مُجمع عليها بين أهل السنة والجماعة، كذلك ما يقع من خوارق الكهّان والسحرة، فإنّه ثابت ولا يُقال أنه يختلط مع دليل النبوة، فإن ثمة فرقًا بين المقاميْن من جهة القائم به ومن جهة الفعل نفسه، ومن المعلوم أيضا أن الولي لا يمكن أن يختلط بالنبي، فترى أن الحقائق مُتباعدة على التمام.

الثمرة العشرون: (الفرق بين النبي والرسول)

الشائع في أكثر كلام الشرّاح أن النبي من أُوحيَ إليه شرْع ولم يُؤمر بتبليغه، ويجعلون الرسول من أوحي له وحيٌ وأُمِر بتبليغه، وهذا التحصيل لا دليل عليه..

 فالله قد أخذ الميثاق على أهل العلم أن يُبينوه للنّاس الذين لم يأتيهم وحي فكيف بمن أوحى الله إليه وحيًا؟

فالأدلّة والمقاصد الشرعيّة تُخالف هذا القول، وقد نُسب لشيْخ الإسلام ابن تيمية ولكنه ليس كذلك.

بل الصحيح: أن النبيّ من بُعِث أو أُوحيَ إليْه الاتباع أو التّجديد لشريعة نبيٍ قبله، ويكون الرسول من بُعث إلى قوم بأصل التوحيد.

فمن كان المقصود من بعثَته أن يُبيّن للناس أصل التوحيد فإنه يُسمى رسولًا، ومن كان المقصود من بعثتهِ إما نسخ الشريعة السابقة، أو التثبيت لها أو التجديد في بعض مسائلها فإنه يُسمّى نبيًّا.

وقالَ بعض العلماء: إنّهُ ليس من شرط الرسول على هذا الوجه إذا بُعث بأصل التوحيد أن يختصّ بشريعة، بل قد يُبعث بأصل التوحيد ويكون موافقا لشريعة رسول قبله .

الثمرة الحادية والعشرون: (القرآن كلام الله)

لما عطّل الجَهمية والمعتزلة الباري عن صفاته، ولم يصفوه بصفات الكمال كان من تلك الصفات صفة الكلام، فقالوا: إن كلام الله مخلوق، ولمّا كان صريحًا في القرآن أنه كلام الله؛ تبَعا لهذه المقدمة عندهم جعلوا القرآن مخلوقا، قالوا ذلك لأنهم معطّلون لصفاته عز وجل..

وقدْ أجمع السلف على أن هذه الكلمة كُفرية، حكى الإجماع غير واحد، فالقول أن القرآن مخلوق هو قول كفر، فالقرآن كلام الله سبحانه حروفه ومعانيه، وهذا التقرير فرع عن الأصل المقُول في الصفات وهو: إثبات صفات الكمال لله سبحانه، ومن أخصّها الثابتة بالعقل والشرع الكلام، فهو يتكلم بما شاء كيف يشاء وهو من صفاته الأزلّية، وكلامه متعلّق بقُدرته ومشيئته وأنه بحرف وصوتٍ مسموع .

 وقالت الأشعرية: القرآن عبارة أو حكاية عن كلام الله؛ وليس كلام الله على الحقيقة، وبيّن الطحاوي أنه لم يكن على طريقتهم، فقال: هو كلام الله على الحقيقة، فاستعمل لفظ الحقيقة، درءً لمذهب الأشعريّ وابن كلّاب وأمثالهما.

وحقيقة الكلام: الذي أجمعَ عليه السلف أنّ الكلام الذي يتناول اللفظ والمعنى جميعا، ليس هو اللفظ وحده ولا المعنى وحده.

فمن قال: القرآن مخلوق، فقوله كفر إلا أنّ قائل ذلك لا يُكفّر ابتداءً إلا إذا عُلمَ أن الحّجة قائمة عليه..

 قال شيخُ الإسلام: المقالة التي تكون في حكم الله ورسوله كُفرًا، لا يلزم أن يكون كلُّ من قالها من أهل القبلة كافرا.

قال شيخ الإسلام: والإمامُ أحمد وإن تواترَ عنهُ تكفير الجهميّة الذين قالوا بخلقِ القرآن، فإنّهُ لم يكفّر ولم يشتغل بتكفير أعيانهم، بل قد صلّى الإمام أحمد -رحمهُ الله- خلفَ بعض من يقول بخلق القرآن ودعا له، واستغفرَ له.

وقال: يُعلم أنّ الواحد من أهل الصلاة والشّعائر الظاهرة، لا يكون كافرًا في نفسِ الأمر -أي في حُكم الله- إلّا إذا كان ما يُظهرهُ من الصّلاة ونحوها على جهة النفاق.

الثمرة الثانية والعشرون: (رُؤية الله عز وجل)

من أخصّ الصفات التي حصل بها النّزاع، رؤية المؤمنين ربهم عيانًا بأبصَارهم، وقد أجمع على ذلك السلف، يرونهُ في عرصات القيَامة، وبعد دخولهم الجنة، والدّليل على ذلك الكتاب والسُنة والإجماع.

وقد نفَى الرؤية أئمةُ الجهميّة والمعتزلة ، وهذا المذهب بدعة بإجماع السلف، وقد جعل بعض الأئمة الخلافَ في هذه المسألة كُفرا، ومن دلائلها: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرة*إلى ربّها ناظرة}

وقوله تعالى: {لا تُدركه الأبصار} نفى الله الإدراك، والإدراك قدْرٌ زائد على أصلِ الرُؤية، فلما خُصّ القدر الزائد بالنفي؛ دلّ على أنّ ما دونها يكونُ ثابتا، وإلّا لا معنى لتخصيص القدر الزائد بالنفي، ومعلومٌ بحس بني آدم أن بيْن الإدراك وأصل الرؤية فرقاً، فلا يلزم أنكَ إذا رأيتَ الشيء أنك مدركٌ له، وقوْل من فسّر الآية بأنّه لا تراه الأبصار في الدنيا فليس صحيحا.

وهذا من خصائصهِ سبحانه أنه يُرى ولكن لا يُدرك، وكل ما سوى الله فإنه يرى ويُدرك أو يُرى ويُمكنُ إدراكه.

ومن دلائل أهل السنة قوله تعالى لموسى: {لن تراني} وجهُ الدلالة أنّه عليه السلام سأل ربه الرؤية، ولو كان كما تزعم المُعتزلة من أصل التوحيد أنه لا يُرى وأنه تُمتنع رؤيته للَزِم من ذلك أن يكون موسى جاهلًا بالتوحيد!

قاعدة: ما  نفى جهميٌ أو معتزليٌ صفةً ومُوجبُ نفيِه نصّ مفصّل.

 الثمرة الثالثة والعشرون: (رؤية الكفّار والمُنافقين لربّهم في عَرصات القيامة)

وهذه مسألة نزاع بيْن المتأخرين وغيرهم، قال شيخ الإسلام: ولم يُحفظ للصحابة فيها قولٌ بيّن.

والأقوال التي يذكرها أهل السنة والجماعة ثلاثة أقوال:

الأوّل: أنه لا يراه في عرصات القيامة سائر أجناس الكفار، سواء كانوا من المشركين أو من أهل الكتاب أو المنافقين، فلا يراهُ في عرصات القيامة إلا أهل الإيمان.

الثاني: أنه يراه سائر الكفار ثم يحتجب عنهم، الثالث:أنه يراه المنافقون فقط.

وقيل:بالتوقف في المسألة والكف عنها، ولا يوجد في المسألة قولٌ يُجزَمُ به.

الثمرة الرابعة والعشرون: (أيّهما يُقدّم العقل أم النقل؟)

ظهَر قانونٌ في كلام المُتكلّمين، وقد ذكره أئمة الجهميّة والمُعتزلة ثم لما جاء الأشعريّ ومع كثرة انتسابه لأئمة السنة والجماعة صار يتباعد عن التصريح بهذا القانون، ولكن لما جاء أصحابه المتأخرون من بعده صرّحوا بما صرحت به المعتزلة، ومحصلّ هذا القانون أنهم يقولون "إذا تعارضت الأدلّة العقليّة والأدلّة النقليّة فإمّا أن نُقدّم العقل، وإمّا أن نقدم النقل، وإما نُعملهُما معا، وإمّا أن نُسقطهما معًا " وهذا ما يُسمى عندهم بـ السّبر والتقسيم.

قالوا: أمّا جمعهما فمُمتنع لأنه جمعٌ للنقيضيْن، وأمّا رفعهما فممتنع لأنه رفعٌ للنقيضين، قالوا فلم يبقَ إلّا أن يُقدم أحدهما على الآخر!

قالو: وتقديم النقل على العقل مُمتنع، لأنّ أصل قبول النقل هو العقل، فإن قدمناه عليه لطعنّا فيما ثبت فيه النقل وهو العقل، فيثبت على طريقتهم العقل، وقالوا: النقل إمّا أن يُؤوّل أو يفوّض!

وإبطال هذا القانون شأنٌ واسع، نشيرُ منها على أوجه:-

الأول: أن يقال إن هذا القانون -السبر والتقسيم- مبنيٌ على إمكان تعارض العقل والنقل، فالقانون يقول "إذا تعارض العقل والنقل" فهو مبني على مُقدّمات من أخصّها أن تعارض العقل والنقل مُمْكن، ومعلوم أنّ العقل والنقل حسب القانون يُعدّ دليلا، والدليل إذا وردت عليه المُعارضة من كل وجه لم يصح أن يكون دليلاً في هذا المقام الذي وردت عليه المعارضة فيه، فجعْل النقل دليلا ثم إسقاطه بالعقل من باب الجمع بين النقيضين، فما كان ساطقًا لم يصح أن يُسمى دليلا!

 فإنّ الدليل ما يصح أن يُستدلّ به على المدلول، فإن قيل في هذا المقام أنهُ ليس دليلا، وأنّ العقل مُقدّم عليه قلنا: لا يكون دليلا في هذا المقام، فالدّلائل الصحيحة في نفسها يمتنع أن تكون مُتعارضة.

فلما صحّ عندهم أن النقل معارض للعقل، وأن العقل مقدم عليه، وتقديمه حقيقته القول أن: النقل ليس دليلا في مسائل أصول الدين، ومن جزم بذلك فإنه كان ينبغي أن يُعبر بما هو صريح المخالفة للدين فيقول: إن أصول الدين لا يستدل عليها إلا بالعقل وأن النقل وهو: كتاب الله وسنة رسوله لا يصحّ أن يُستدل بهما بما هو في أصول الدين .

الوجه الثاني: أن يُقال إن الدليل الذي يصح أن يكون دليلا في مقام، يُنظر في تقديمه على الدليل الآخر باعتبار دلالته أو باعتبار ثبُوته، فإن كل دليل له جهتان: الثبوت والدلالة..

وجهة الدلالة والثبوت يرِدُ عليها إذا صح الدليل في الجُملة أن يقال: إنّ ثبوته قطعي أو ظني، وأن دلالته قطعية أو ظنية، ومعلومٌ أن الدليليْن إذا كانا صحيحيْن في مقام وأُريد يُقدمُ إحداهما على الآخر، اعتُبر التقديم بقوة الثبوت أو الدلالة!

وهذا تقديم صحيح عند سائر العقلاء، فالقطعي مُقدّم على الظنّي.

فنقول: يُعاد السبر والتقسيم هنا، فيُقال: الدليل العقلي، والدليل النقلي، إما أن يكونا قطعييّنْ وإما أن يكونا ظنّيين، وإما أن يكون أحدهما قطعيًا والآخر ظنّيًا!

فكونهما قطعيين في الدلالة والثبوت، فهذا ممتنع إلا إذا فُرض اتفاقهما، وأما على فرض تعارضهما فهذا ممتنع!

وكوْن الدليل النقلي والعقلي ظني الثبوت والدلالة، هذا أيضا وإن فَرض العقل جوازهُ فإنه مُمتنع، فإنه يلزم عليه أن تكون المعرفة والتوحيد لا تتعدّى ولا تتجاوز الظن وأن لا يكون هناك علمٌ في أصول الدين، ولاشكّ أن هذا ممتنع عقلا وشرعا!

فلم يبقَ إلا أن يكونَ الدليل العقلي والدليل النقلي أحدهما قطعي الثبوت والدلالة، والآخر ظني، ومعلوم أنّ القُرآن قطعي الثبوت بإجماع المسلمين، لا ينازع بهذا إلا كافر .

فنقول لمن زعم أن دلالة القرآن ظنية فيُقال له، فبماذا يعبر عنها باللسان؟

فإن كان قوله: {رضي الله عنهم} إن كانت دلالة ظنية على إثبات صفة الرضا فما هو التعبير الذي يكون قطعيّ الدلالة؟!

فعُلم أن القرآن قطعي الثبوت قطعي الدلالة، فلزم من ذلك أن غيره ممن يسميه هؤلاء عقلا ليس كذلك، وأحسن أحواله أن يكون ظنًا ولا شك أنه ليس ظنا بل وهما، والوهم كذب، فلا حقيقة للوهم.

الوجه الثالث: إن الدليل النقلي لا يعارضه ما يُسمى عقليًا، فهذا يدل على أن الدليل النقلي مجرّد عن الحكم والدِّلالة العقلية، والأمر ليس كذلك .

هذا قانون يطول البحث فيه، والصواب أن يُقال: إن العقل ليس معارضًا للنقل، فلا تنتظر نتيجة "أن مذهب السلف تقديم النقل على العقل" وإن كان أطلقَ هذه الجُملة بعض أهل السنة فهيَ على مراد أنّ من خالف عقلهُ شيئا من الوحي فإنه يقدّم الوحي على عقله، فعلى هذا المراد يُمكن لقائل أن يقول إن النقل مقدم على العقل..

ولكنّ التعبير الأحْكم أن يُقال إنّهُ ليس ثمة تعارض بينهما، وكل من زعم أن العقل يُعارضه شيء من النقل؛ فإنّ العقل الذي زعمهُ وهمٌ ليس بصحيح، والله سمّى مثلَ ذلك ظنًا وخرصًا ووهمًا، وإلّا فالعقل ذُكر في الشرع على مقامٍ شريف، وذُكر موجبا ومصحّحا للإيمان.

الثمرة الخامسة والعشرون: (اتفاق طوائف المُسلمين على جُمل التوحيد، وافتراقُهم في تحقيق مناطها الصحيح)

ليس أحدٌ من المسلمين ينازِع في جُمل التوحيد الأولى، فإنّ من نازعَ فيما هُو من جُمل التوحيد الكليّة فإنهُ لا يكونُ مسلما، وذلك لأنّها من شرطِ عقد الإسلام، وإن كان لا يلزمُ من ذلك أنّ مناط هذه الجُمل لا يكون مُحققًا عند سائر أهل القبلة ، فمن الجُمل "أنّ الله موصوف بالكمال منزّهٌ عن النقص" فهذه الجملة من جُملِ التوحيد الكلية المُجمعِ عليها، فمن نازع فيها فإنه من أكفر الكفار وألحد الملحدين، وإن كانت بعض الطوائف لم تُحقق المناطَ الصحيح لهذه الجملة..

فترى أن المُعتزلة سمت نفيَ الصفات توحيدا، وصار من أخصّ أصولهم ومقدّمها التوحيد ويريدون به هنا نفي الصفات.

الثمرة السادسة والعشرون: (لفظ المشاركة في الصفات بين الخالق والمخلوق)

الله منزّه عن لفظ المشاركة، لكنّ لفظ المُشاركة صار يُستعْملُ فيمَا هو من المعاني الحقّة، فيكونُ المعنى حقا لكن لا يصح تسميتهُ مشاركةً، وظنّ متكلّمة الصفاتية أنّ الاشتراك في الاسم المُطلق يستلزم التماثل عندَ الاضافة والتخصيص، وظنّهم أن الاشتراك في الاسم المطلق هو التشبيه الذي نفتهُ النّصوص .

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من عطّل صفة من صفات الله تعالى، لزمهُ التسلسلُ في التعطيل حتى يُعطل الباري عن العلم، ومن التزمَ نفي صفة العلم -كما التزمه غلاة المعطّلة- فإنه يلزمه أن يعطل الباري حتى عن الوجود لأن المخلوق موجود"

وقد لزِم هذا السؤال سائر مذاهب التعطيل، فكان لهم جوابات متناقضة في العقل، فضلا عن بطلانها في الشرع..

من جوابتِهم قولُهم: أن لفظ الوجود بين الخالق والمخلوق مقول بالاشتراك اللفظي، زعم الرازي أن هذا الجواب منتهَى الأجوبة العقلية الصحيحة عن هذه المسألة، ولا شك أنه أفسدها، ولهذا أعرض عنه حذاق المعتزلة ومقدمة الأشاعرة.

فلو قيل فيه: لزِم من ذلك العلم بعدم وجوده سبحانه، لأنه ما من دليل يذكر في الوجود إلا ويُراد به الوجود المعروف عند العقلاء وهو قيام الشيء في الخارج. 

فلو قيل: إن لفظ الوجود في حقّه مقول بالاشتراك اللفظي، صار هذا تعطيلا للوجود من وجه أخص، فهذه المذاهب تستلزم التعطيل المُطلق .

 الثمرة السابعة والعشرون: (صفة العلو)  

لفظ التحيّز والجهة من الألفاظ المُجملة لا تُطلق إثباتا ولا نفيا، هذا إذا لم يكن يُعبّر بها في كلام أهل التعطيل عن مرادٍ يُخالف عقيدة السلف، أما إذا اقترن معها هذا المعنى فيكون التباعد عنها والنهيُ عن استعمالها من باب أولى، ويُعلم أن الطحاوي من مُثبتِ العلو والصفات الخبرية لكنّهُ-رحمه الله-نقل تعبيرا معروفا عند بعض الحنفية من الماتريدية والأشعرية، فمَقصوده رحمه الله مقصود فاضل .

 والسلف رحمهم الله: أجمعوا في تقرير مسألة العلو: أن الله سبحانه موصوف بالعلو، وأنه فوق سماواته مُستوٍ على عرشه بائن من خلقه، وهذا مُجمع عليه بين الصحابة وأئمة التابعين، ومن تبعهم بإحسان.

وأوّل من عُرِف عنه إنكار العلو فرعون، وفي هذا دليل على أن موسى عليه السلام كان يُخاطب فرعون وقومه بأن الله في السماء .

وصفة العلو معلومة بالفطرة والعقل والشرع، فكل نص ذكر الإنزال من عنده، والصعود إليه فهو يدل على العلو، وكذلك كل نص ذكر فيه أنه في السماء فهو كذلك.

 وحتى جماهير المشركين ما كانوا معطّلين لهذه الصفة وأمثالها، ولو كانت هذه الصفة معارضة للعقل لكان أوْلى بهذا الاعتراض أهل الشرك لما بُعث إليهم النبي-صلى الله عليه وسلم- 

من عطل صفة العلو عن الله سبحانه، فإنّهم يستعملون لتعطيلها فُرقا، فترى غلاتهم يقولون لا داخل العالم ولا خارجه، وترى بعض من ينتسبُ منهم للسنة والجماعة -كـ متأخرة الأشاعرة- يُعبّرون بنفي الجهة، وهذا تعبير عبّر به طوائف من المعتزلة، فمقالة - لا داخل العالم ولا خارجه- لا يفقه العقل منها إلا  الحُكم على هذا الموصوف بالعدم، فهل يعقِل عاقل أنّ شيئا قائما بنفسه يمتنع عليه أن يكون داخل العالم وخارجه فضلا عن كونه ربا؟

قال شيخ الإسلام رحمه الله: طريقة هؤلاء أنهم يُشبّهون الباري بالمُمتنعات .

فكل دليل ذكرهُ من أنكر صفة علو الله وجعلوه موجبا لنفيِ العلو من العقل فإنه يرجع إلى دليل واحد، وهو أن إثبات العلو يستلزم إثبات الجهة، والجهة تستلزم التحيّز وهو أن يكون الله في شيء معيّنٍ يحوزه، ولا شك أن سائر هذه الأدلة كلها في الحقيقة إذا صُحّحت من جهة العقل تدلُّ على أنّ الله يمتنعُ عليه أن يكون في شيء مخلوق، أي: يمتنع أن يكون داخل العالم.

وليسَ المقصود من كون الله في السماء أنّه في أحد السماوات السبعِ المخلوقة، أوغيرها من المخلوقات، فقد قال: وسِع كرسيّه السماوات والأرض، فما بالك بعرشه؟

تعالى وتنزّه أن يُحاط به، فمعنى أن الله في السماء أي: فوق سماواته، والعرش سقف المخلوقات، والله فوق عرشه .

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-وقولهم: لو كان الله متّصفا بالعلو للزِمَ أن يكون في جهة..، فنقول: إن لفظ الجهة مجْمل حادث فإن أريد بالجهة أي: الجهة الوجودية المخلوقة فإن الله منزّه عن سائر مخلوقاته لأنه بائن عن خلقه، وإن أُريد بها معنى عدميًا وهو أن الله فوق العالم، فإن الله بائن عن خلقه فوق سماواته مستوٍ على عرشه.

هذه مسألة شريفة وهي من أشرف مسائل التوحيد .

إذا انغلق على المُعتزلة تعطيل صفة من الصفات ردّوا تعطيلها إلى كوْن أن إثباتها يستلزم إثبات العلو، وهو ما يسمونهُ في كتبهم الجهة، والجهة عندهم منتفية، ومن مثال ذلك الرؤية فإنهُ انغلقَ عليهم امتناعها من جهة العقل، فلم يجعلوا من منعها من جهة العقل إلا أن إثباتها يستلزم إثبات الجهة، الذي هو إثبات العلو.

الثمرة الثامنة والعشرون: (ما هو أوّل واجب على المكلّف؟)

أولا: ما الفرق بين دليل الفطرة ودليل العقل؟ 

دليل الفطرة: هو ما فطر الله الخلق عليه، فلا يحتاجُ إلى نظر ولا استدلال، كفطرته سبحانه لخلقه على إثباتِ ربوبيّته ووجوده.

الدليل العقلي: يُراد به الدليل النظري، كقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} فالنّظر في ملكوت السماوات والأرض إذا تحصّل بها وصولٌ إلى بعض الحقائق فإنّ هذا يُسمى استدلالا عقليا.

 وغلِط المُعتزلة فقالوا: أوّل واجبٍ على المكلف النّظر، وهذه يَغلط بها كثير من المتأخرين؛ وأصلها فرعٌ عن مذهب المعتزلة في القدر، ودخلت على جمهور المُتكلّمة الأشعرية، وبعض الفقهاء والأصوليين من جهة المعتزلة، مع أن جمهور من دخلت عليهم من المتأخرين يُخالفون المعتزلة في أصل مسألة القدر.

المعتزلة يقولون: العبد يَخلق فعله، فلذلك قالوا : فالثواب والعقاب على العمل، وأصل مبنى الثواب هو التوحيد، فالتوحيد حتى أصلهُ إما يُتلقّى بالعلم النظري، وليس بأصل الفطرة، وعلى هذا أجْمعت المعتزلة وقالت جماهيرهم: إنّ أول واجب على المُكلف النظر، وجاءت الأشعرية فقالت: أول واجب على المكلف المعرفة. 

والقول: أنّ أول ما يجبُ على المكلف النظر، لم يكن في مذهب أحمد ولا أصحابه، فإن السلف مُجمِعون أن أولَ واجبٍ على المكلف الشهادة، وبهذا خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- سائر النّاس.

الثمرة التاسعة والعشرون: (اعملوا فكلٌ ميسرٌ لما خُلق له)

كتبَ الله مقادير الخلائق وكتب السعيد والشّقي، فكتب الله الأسباب، وكتب المسبّبات، فإذا كتب الله عن عبد أنه من أهل النار فكما كتب أنه من أهل النار فلا بدّ أنه كتبَ له عملا بعمل أهل النار وهو الكفر.

فالفرض الذي يفرضهُ العقل عند بعض الناس وهو أنه إذا كان العبدُ كُتب شقيا فلماذا يعمل ؟

يُقال: هذا فرض باطل؛ بمعنى أنه ليس في قدر الله أن عبدا يعمل الصالحات ويكون كُتب شقيا من أهل النار، فمن زعم هذا الانفكاك لم يفهم معنى قدر الله، فإن الله كما كتب المآلات، فقد كتب الأعمال وكل مآل لهُ عملٌ مناسبٌ له، فلا يعذّب تعالى إلّا من عصاه، فهذا الذي يعرض للناس وهْمٌ وليس مشكلا، يكون مشكلا لو كتب الله المآل دون الأعمال !

 وهذا الإشكال لا يُزيّنه الشيطان إلا في باب الشرع، ليصُد بني آدم عن ذكر الله وتوحيده، وإلّا لو كان صحيحًا لكان مطّردا في سائر أحوال بني آدم ولا يختص بحالهم من جهة الديانة، كحالهم من جهة الولد ومن جهة الأرزاق إلى غير ذلك،فلا يصح لأحد أن يدع السبب والعمل!

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لم يذهب إلى الاحتجاج بالقدر على الإطلاق أحد من عقلاء بني آدم، فلازم على من احتج بالقدر على إسقاط الشرع أو معارضته أنه لا يلوم من اعتدى عليه، فإن من اعتدى عليه اعتدى عليه بقدر، ولازم ذلك أن يقعُدَ عن الأكل والشرب فإنّه إن كتب له أنه سيموت فإنه سيموت أكل أو لم يأكل، وهذا لا يفعله إلا مجانين بني آدم"

مرادهُ: أنّ القدر ليس مختصًا بباب الشرع، فكما أن الشقاوة والسعادة بقدر؛ فكذلك الولد بقدر، وكذلك العدوان الذي يقع على الشخص بقدر وهلم جرّا.

الثمرة الثلاثون: (إطلاق اسم الإيمان)

تسمية أهل القبلة مسلمين سواء كانوا أبرارا أم فُجّرا بالإجماع لم يُخالف به أحد إلا الخوارج والمعتزلة، أمّا جمهور طوائف الأمّة فالمُحكم عندهم أنّ الأصل في أهل الإسلام أنهم يُسمون مسلمين، وأنّ كل أحدٍ بعينه يُسمّى مسلمًا مهما كانت كبائره، لا ينازع في إطلاق ذلك إلا متأثر بالخوارج.

وقول أبي جعفر عن أهل القبلة: (مؤمنين) فإنّه فرع عن رأيه في مسمّى الإيمان، فلما كان العمل ليس داخلا عنده في مسمّى الإيمان صار أهل الكبائر عنده بناء على أصله-أنّ العمل ليس داخلا في مسمى الإيمان- يكونون مؤمنين، فعنده أن الإيمان هو:الإقرارُ باللسان والتصديق بالجنان، وأما العمل فإنه برٌ وتقوى.

وتسمية أهل الكبائر عند أهل السنة محل نزاع، فمنهم من قال يُسمّون مسلمين ولا يسمون مؤمنين، ومنهم من قال: إنهم يُسمون مسلمين على الإطلاق دون التعيين.

والذي تدل عليه آثار السلف وجوَابتهم لهذه المسألة أن اسم الإيمان في حق أهل الكبائر تارة يُذكر مطلقا -بلا قيد- وتارة يُذكر مقيّدا وتارة لا يذكر.

مثال ذكره مطلقا: {فتحرير رقبة مؤمنة} فيدخل فيها الفاسق، فلو أعتق فاسقا صح بالإجماع.

ذكرهُ مقيّدا: فهو ما إذا سُئل عن اسم الفاسق؟ وقدْره من الإيمان، فإنه يقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فيسمى مؤمنا بالتقييد.

عدم ذكره على الإطلاق: إما أن يكون بالانتقال إلى غيره، كما في حديث سعد حينَ قسم النبيقسما فقال: يا رسول الله أعطِ فلانا فإني لأراهُ مؤمنًا، فقال النبي:ﷺ أو مسلمًا؟ 

فانتقل النبي في حق هذا الرجل عن اسم الإيمان إلى الإسلام، مع أن هذا الرجل يؤمن بالله وبرسوله، وقد قال النبيعن الجارية "أعتقها فإنها مؤمنة" فلمَ لم يُقر سعدا ؟

قيل: لأن المقام والحال مُختلفة، فإنّ الرجل في حديث سعد إنما ذكَر سعدٌ ذلك على جهة المدحِ والثّناء، وإذا قُصد مقام المدح والثناء فإنه لا يُسمّى بالإيمان إلا من استفاض هذا الأمر فيه، وإنما يُستعمل في الإطلاق وبين عامة المسلمين اسم الإسلام، وفي حديث الجارية فلفظ الإيمان قصد به النبي-صلى الله عليه وسلم- المُباين للكفر.

وفي مقام الأحكام الدنيويّة كالعتق والمواريث فإن الفسّاق يسمّون مؤمنين .

وقد يُنفى الإيمان عن شخص في حال معيّنة كقوله"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" مع إنّه لو أعْتِق الزاني فإنه أعتقَ مؤمنا.

والأصل في أهل الكبائر أنهم مسلمون، فلا يكون اسم الفسق مُطلقا لهم في سائر الأحوال والموارد، فإنّ هذا شبَهٌ بالمعتزلة.

وجمهور المرجئة تقول: في أهل الكبائر، أنهم مؤمنون بإيمانهم، فاسقون بكبائرهم، وعليه فهذه الجملة ليست محصّلة وإن كانت صحيحة إلّا أنها لا تُميّز مذهب السلف عن مذهب أكثر المرجئة، فترى الأشعرية كذلك يقولون هذه الجملة في كُتبهم، ويكونُ التحصيل للتمييز في هذه الجملة التي يستعملها من يستعملها من أصحاب السنة والجماعة، وهي قولهم: إنه مؤمن ناقص الإيمان، فجُملة النقص هي المحصّلة للتمييز بين قول السلف وقول جماهير المرجئة.

 الثمرة الحادية والثلاثون: (مقام الرجاء والخوف)

عبادةُ الله سبحانه وتعالى عند أهل السنة معتبرة بثلاثة من الأصول:-

الأصل الأول: الاستحقاق، فالله سبحانه وتعالى يُعبَد، ويُسئل ويُدعى ويُتّقى استحقاقا، أي: لكونهِ مُستحقا للعبادة، وهذا هو أشرف أصول العبادة، وهوعبادته سبحانه لكونه يستحقها، ومن أخص مقامات الاستحقاق محبّته سبحانه.

الأصل الثاني: الرجاء، وهو أصل واسع.

الأصل الثالث: الخوف، وهو أصل واسع.

أي: واسع المتعلّق، فإنّ من يفسر الرجاء برجاء الجنة، ويكون مدار كلامه إذا ذُكِر الرجاء على رجاء الجنة، وثواب الآخرة، فلا شك أن هذا -إذا ما فُسرّ الثواب والرجاء بالجنة والنعيم المادي- لا شك أنه يكون تفسيره قاصرا.

وكذلك من فسر مقام الخوف بعذاب النار والخوف من عذاب النار، فلا شك أن تفسيره يكون قاصرا..

فمن أخص مقامات الرجاء: محبته سبحانه، ورجاء رضاه سبحانه وتعالى، إلى غير ذلك، ومن مقامات الرجاء رجاء الجنة.

وكذلك الخوف فكما أنّ الخوف من النار من الخوف الشرعي -الذي شرعهُ الله ورسوله- إلا أن من مقامات الخوف الخوف من سخطه وغضبه سبحانه وتعالى، فيكن فقه هذين الأصلين -الخوف والرجاء- على هذا الوجه، أي: أنه لا يختص بالنعيم أو العذاب المادي، بل بما يتعلق بما بين العبد وربه، من محبّته ورضاه، أو سخطه وغضبه ومقته. 

الثمرة الثانية والثلاثون: (مسألة الإيمان)

  يرى المصنف أنّ الإيمان هو: التصديق باللسان والإقرار بالجنان، وهذا قول أبي حنيفة، فلا يرون العمل داخلا في مُسمى الإيمان، والمأثور عن الصحابة رضي الله عنهم أن الإيمان قول وعمل، والنزاع في هذه المسألة أولُ نزاع حصل في هذه الأمة في مسائل أصول الدين .

والمراد عند السلف بقولهم: الإيمان قول وعمل،القول هو: قول القلب وقول اللسان، والمراد بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح.

والمراد عندهم بقول القلب، أي: تصديق القلب، وأمّا عمل القلب فهو حركته بهذا التصديق بأعماله المناسبة له كالمحبة والرضا والخوف وغير ذلك من أعمال القلوب، على هذا أجمع السلف، وهم يقولون الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد وينقص من جهة الأعمال الظاهرة، ويزيد وينقص من جهة الأقوال -إذا فسر قول اللسان من غير الشهادتين- ويزيد وينقص في أعمال القلوب حتى التصديقات تكون متفاضلة.

وأقرّ الخوارج والمُعتزلة أنّ الإيمان قول وعمل ولكنهم لم يروا زيادته ولا نَقْصه، ولذلك قالت الخوارج: إنّ مُرتكب الكبيرة يكون كافرا، وقالت المعتزلة: إنه يكون فاسقا عادم الإيمان، وقابلهم المرجئة، فإن سائر طوائف المرجئة أجمعوا: أن العمل ليس داخلا في مسمى الإيمان، ثم اختلفوا على أقوال، أشدّها غلطًا وبُعدا قول الجهم بن صفوان فإنه قال الإيمان هو المعرفة.

 وأخف مقالات المُرجئة هُوَ قول: حماد بن أبي سليمان، وهو إمام من أعيان أئمة الكوفة، لكنه غلط في مُسمى الإيمان فقال: إن الإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، وأنّ العمل ليس داخلا في مُسمى الإيمان، فهذه البدعة أول من ابتدعها في أهل السنة والجماعة هو حمّاد، ومن جهتهِ دخلت هذه البدعة على أبي حنيفة وجماهير أصحابه.

وأجمع السلف أنّ قولَ حماد وأمثاله بدعة، وهو قول مخالف لإجماع السلف -الإجماع المتقدّم- وليس كون قولهم مخالفا للإجماع أنهم لا يُضافون للسلف، فهم من أصحاب السنة والجماعة.

وغلطهم هذا الذي قالوهُ في مُسمّى الإيمان، لم يكن مُوجبهُ خارجا عن ما يصح الاستدلالُ به وهو: الكتاب والسنة، فالنظر في موجب المقالات يتحقّق به قدر من  الحُكم والإضافة من مسائل التبديع ونحوها، فقد كان حماد وأمثاله يستدلون على قولهم بما جاء في كتاب الله كثيرا: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فجعلوا ذكر العمل مع الإيمان دليلاً على أنّ العمل ليس داخلا في مسمّاه.

 وَوُرُود اسم الإيمان في الكتاب والسنة تارةً يكون مقيّدا وتارة يكون مطلقًا، ويُراد به في مقام أصلُه، ويراد به في مقام تمامُه، فالإيمان لمّا يُذكر في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} يُراد به هنا الأصل، وهذه الآية وأمثالها أقوى ما استدل به المُرجئة ولا سيما الفقهاء منهم على أنّ العمل ليس داخلا في مسمى الإيمان، ويُردّ عليهم بجوابيْن:

الأول: أن هذا من باب عطف الخاص على العام، وهذه الطريقة وإن كانت صحيحة لكنها ليست الأجود .

الثاني: أن الذي يُراد بالإيمان هنا الأصل، وإذا ذكر الأصل فإنّ العمل يكون لازما له، ولزومه له في مقام لا يستلزم عدم دخوله في ماهيّته في مقام آخر، فإن ما كان لازما فإنه يكون تابعا، وتعلم أنهُ لا يمكن في العقل فك اللازم عن الملزوم، وهذا القول رجّحهُ شيخ الإسلام ابن تيمية.

 وعدم تسمية العمل الظاهر إيمانًا مخالف للكتاب والسنة، فإنّ الله سماه إيمانا، ولما سمّيت في كلام الله ورسوله إيمانا فإن منع تسميتها إيمانا يكون أحد أوجه المخالفة.

وحمّاد وأمثاله يقولون: إن الإيمان واحد، فلا يجعلون العمل مما يحصل به الزيادة والنقصان، وهذا مخالف للكتاب والسنة والإجماع.

ومن الفروق أيضا: أن على طريقة حماد وأمثاله لا يُكفَّر العبد بتركه للأعمال الظاهرة، سواء كان تركه لجنس الأعمال الظاهرة أو لبعض أعيانها، والمخالفة من جهة جنس الأعمال الظاهرة المأمور بها -وأخصها الصلاة إلى غير ذلك- فمن جهة جنسها فالإجماع مُنعقد على أنّ من هجر جنس العمل الظاهر فإن هجره له كفر، وهذا مذهب مُستقر عند متقدمي السلف المُخالفين لمذهب حماد بن أبي سليمان .   

الثمرة الثالثة والثلاثون: (ترك العمل ظاهرا يوجب كُفر الباطن ولا بد)  

غلَت المرجئة حتى كان من قولهم: أن من ترك الصلاة والصيام والحج وعامة الفرائض من غير جحودٍ لها فلا يُكفّر، إذ هو  مقر.

وإجماع السلف على هذه المسألة يُعرف بأوجه:-

الوجه الأول: أنّ العمل عندهم أصل للإيمان، ولما كان أصلاً فإن عدمه كفر.

الوجه الثاني: أن هجر جنس العمل لا يكون إلا مع نوع  من الكفر الباطن.

كل من ثبت كفرهُ ظاهرا في نفس الأمر لزِم أن يكون في الباطن كافرا، لامتناع اجتماع الكفر الأكبر مع شيء من الإيمان الصحيح، حتى لو أُريد بالإيمان الأصل، فإنه معلوم أن من كان كافرا عند الله-سبحانه وتعالى- كُفرا أكبر يمتنع أن يكون معهُ شيءٌ من الإيمان الصحيح.

 ولا يُعتبر بهذا العلم ولا المعرفة، فإن العلم في سائر موارِده لا يلزمُ أن يكون هو الإيمان الذي بعث الله به رسولهﷺ فليس كل وجه من أوجهِ العلم والمعرفة هو الإيمان الذي يحصل به الاستجابة لله ورسوله هذه حقيقة مُجمعٌ عليها، وعليه فإذا قيلَ: إن العمل أصل في الإيمان، وأن تارك العمل مطلقا يكون كافرا لزم من هذا أن يكون كافرا ظاهرا وباطنا، بخلاف من يكون في الباطن كافرا فقد يكون في الظاهر على الإسلام كحال المنافقين الذين أظهروا الإسلام، ومن صح إيمانه باطنا امتنع كفرهُ ظاهرا.   

 الثمرة الرابعة والثلاثون: (بما يُحصّل مذهب السلف؟)

قيل: الطريقة المعتبرة عند المحققين من أرباب أهل السنة والجماعة، أن مذهب السلف يُعرف بوجهين.

ونذكر كلام شيخ الإسلام فقد قال: فإن قيل بما يُعرف مذهب السلف؟

قال: فيُعلم أن مذهب السلف الذي إذا أضيف إليهم يكون لازمَ الاتباع، وإذا قيل في مسألة أنها مذهب السلف، فإن معنى هذا أنّها من معاقل إجماعهم، وأنّ هذا من الدين اللازم الذي لا تجوز مخالفته أو الاجتهاد بخلافه، ويكون سائر من خالفه بدعة، قال: ومذهبهم على هذا الوجه يُعرف بأحدِ طريقين:

الأول: إما بالنقل المتواتر عن أعيانهم، ولا يُعلم عن أحد من الأعيان ما يُخالف هذا النقل -يقول شيخنا الغفيص: أي بمعنى أن يستفيض عن أعيان السلف التعبير بجُملة، مثل قولهم أفعال العبادة مخلوقة، فترى أن هذه الجُمل مستفيضة، وما نُقل عن السلف في ذلك خلافه-

قال شيخ الإسلام: الوجه الثاني، بذكر علماء الإسلام الكبار، عن شيء من هذه المسائل أنها مذهب السلف.

(هذا ينتظم إن لم يعرف عن أحد من السلف مخالفة لما قاله أحد الكبار)

الوجه الثالث:-وهو محدَث- قال شيخ الإسلام: واستعمل كثير من المنتسبين لمذهب السنة والجماعة، من أصحاب الكلام وبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة طريقًا ثالثا لتحصيل هذا المذهب، وهو أنّهم يعتبرون دلائل الكتاب والسنة، فإذا استقام عندهم مقام الاستدلال على قولٍ ولزِم، جعلوا ما انتظم عليه مقام الاستدلال ولزِم مذهبا للسلف، لكون السلف لا يخرجون عن ما لزمَ من دلائل الكتاب والسنة.انتهى كلامه

وهذا ما أُعبر عنه بطريقة ملخصة وهي : تحصيل مذهب السلف بالفهم!

ولا شك أن هذا المنهج غلط لأنه يلزم على ذلك أن كل من اجتهد في مسألة فقهية فرجّح قولا هو الظاهر عنده من دلائل الكتاب والسنة أن يجعلهُ هو مذهب السلف.

فهذا أي: الوجه الثالث طريق مُحدَث استعملهُ بعض المعظّمين للسّلف.

الثمرة الخامسة والثلاثون: (مسألة الحُكم بغير ما أنزل الله)

للسلف في قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قولان:

الأول: كفرٌ دون كفر، الثاني: قول بعضهم بأنّه الكفر المفارق للإيمان.

والصواب: أن كلا التفسيرين مأثور عن السلف، فهذا يرجعُ إلى حال المسألة وصورتها، وقد كان الإمام احمد والبخاري يذكرون في تفسير هذه الآية في مسائلهم وكُتبهم أنه كفرٌ دون كفر وينسبون ذلك لابن عباس، بمعنى أنه قول شائع عند السلف عن ابن عباس وأصحابه..

تنبيه: أحكام الاجتهاد لا يُلزم بالضرورة أن تكون أحكامًا موجِبة، وعليه إذا قيل عن مقالة من المقالاتِ لكونها كُفرا؛ فكُفّر أحدٌ من الأعيان من أهل القبلة من قِبلِ أحد المُجتهدين، لم يلزم بذلك أن يكون تكفيرهُ جزما، أي أنّنا نجزم بأن هذا العبدَ يُوافي ربّهُ بالكُفر، بل قد يكون على خلاف ذلك، وقد يُحكم عليه بعدَم الكفر ويكون عند الله كافرا.

الثمرة السادسة والثلاثون: (تكفير الأعيان)

يقعُ في فقهِ هذه المسألة بعض الغلط، فترى بعض من يتكلّم في هذه المسألة يقولون ما كان السلف يكفّرون الأعيان ولا شكّ أن هذا خطأ، فإن القول إذا قيل إنه كُفر فالأصلُ أن من قاله كافر، وإنّما امتنعَ كفره لمانع منعَ هذا الكفر، وعليه فمن رتب على هذه الجملة أن السلف ما كانوا يكفرون الأعيان فهذا غلط، فمعلوم أن المسلمين يُكفرون اليهود والنصارى والملحدين بالإجماع...

 وأما أهل القبلة الذي قالوا مقالات كفريّة كمقالات في الصفات وغيرها فإن هذه المقالات تُسمى كُفرا، ولكن لما كان صاحبها مُظهِرا للصلاة و الشعائر الظاهرة لا يكفّر إلا إذا عُلم أن الحجّة قامت عليه، لأنه إذا كُفّر فإن كفره لا يكون إلا عن نفاق في الظاهر، وإنّما يكون في الباطن كافرا، وعليه فإن الأقوال تنقسمُ إلى قسمين: من المقالات ما يُعلم أنها كفر ابتداءً كمن قال: إن الله لا يعلم ما سيكون، وكمن سب الله أو رسوله، ونوع من المقالات التي يقولها بعض أهل البدع كخلق القرآن وإنكار الرؤية؛ هي كفرٌ في نفس الأمر لكن قائلها لا يكون كافرا إلا إذا عُلم أنّ الحجة قامت عليه.

 

الثمرة السابعة والثلاثون: (حلول الحوادث)

سائر الطوائف الكلاميّة كلهم مع تضاد نتائجهم أو اختلافها، سائرهم يعتبرون مبنى أساسا في قولهم في مسألة الصفات وهو: دليل الأعراض، فدليل الأعراض يُستدل به عند سائر هذه الطوائف مع تضادّ نتائجها، كما بين المُجسّمة والمعتزلة مثلا، أو مع اختلاف نتائجها، كما بيْن الأشاعرة والمعتزلة، والكل يعتبر دليل الأعراض، وحصل بهذا الدليل نتائج مختلفة، وذلك لرجوعه إلى أحد موجبين:

الأول: الخلاف في بعض المُقدّمات، مثلا: الصفات أعراض والأعراض لا تقوم إلا بجسم.

 جاءت المعتزلة فجعلت العرض ما يُقابل الجوهر، وعلى ذلك قالوا بنفي سائر الصّفات.

جاء الأشعري وقبله ابن كلّاب فقالوا: العرض هُو ما يعرض ويزول ولا يبقى زمانين، فالتزموا بنفي الصفات الفعليّة التي يسمونها حلول الحوادث، وأما أصول الصفات فتكون عندهم ثابتة على خلافٍ بينهم بكوْنها لا تُسمى أعْراضا .

وهذا كله تكلّف وهو نوع من الحد لا أقل ولا أكثر، ولذا يُمكن أن نقول إن حد العرض سواء عند المعتزلة أو غيرهم هو من التحكّم، لأنه حدٌ على غير موجب.

الموجب الثاني: من جهة اللوازم، فترى أن هذا القانون الذي اعتبروه قانونا عقليا، والحقيقة أنه رأي فلسفي لا أقل ولا أكثر، وهو مبني على قياس الله بخلقه، وهو قياس فاسد بإجماع المسلمين، أن الأثر لا يصدر عن مؤثرين، فقالت الجبرية أن: المؤثر هو الله، وقالت القدرية: المؤثر هو العبد، لأنه انغلق عندهم أن تكون للعبد إرادة ومشيئة على الحقيقة مع أن الله هو الخالق لفعل العبد، ولم يفقهوا الفرق بين كونه خالقا وبين كونه فاعلا . 

قال الرازي: إن هذا النوع من الصفات إمّا أن يكون كمالاً وإمّا أن يكون نقصا، فإن كان نقصًا فإن الله مُنزّه عن النقص، فلزِم أن يكون إذا أُثبتَ كمالا، وإذا كان كمالا فإنه حادث؛ فيلزم أن يكون هذا الكمال فات من قبل وفوات الكمال نقص، والله مُنزه عن النقص بالإجماع. وهذا دليل ساقط حتى بالعقل.

مثالُ مقصوده: قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما}يقول إذا كان كلام الله لموسى كمالا لزِم أن يكون هذا الكمال فاتهُ قبل خلق موسى، وفوات الكمال نقص، والله منزه عن النقص، ومن أخص أغلاط الرازي أنه يزعم أن تنزيه الله تعالى عن النقص عُلم بالإجماع، بل هو معلوم بالعقل ومعلوم بالشرع الذي هو الإجماع والكتاب والسنة، فتنزيههُ تعالى عن النقص معلوم بالعقل قبل ورود الشرع.

وهذا له جوابات، لكن من بدهيّ الجواب أن يُعرّض الرازي بنفس الحال فيُقال له: خلق السماوات أو خلق الأرض محدثة، والله الخالق لها بإجماع جماهير بني آدم فخلقه لها كمال أو نقص؟

فإن قال: نقص فهذا كفرٌ بيّن، وإن قال: إنه كمال لزِم على قاعدته أنّ الكمال فاته من قبل، فما يقوله في الأفعال الّلازمة المُتعلّقة بقُدرته ومشيئته يُقال في الأفعال المتعدّية كخلق السماوات والأرض ونحو ذلك.

ثم ما كان حادثا كـ تكليمه لموسى امتنع أن يكون قديما، وما كان ممتنعا لم يكن عدمه نقصا فإن النقص هو فوات ما يكون ممكنا.

الثمرة الثامنة والثلاثون: (حكم أهل الكبائر)

 أهل الكبائر من جهة حكمهم في الآخرة، الخوارج تقول: إنهم كفّار، والمعتزلة تقول: إنهم فسّاق، وقد اتفقوا أنهم مُخلدون في النار وأنهم ليس لهم حظ من رحمة الله، وهو مذهب واضح الضلال، ولذلك أنكروا شفاعة النبي-صلى الله عليه وسلم- والأولياء والصالحين لأهل الكبائر لأنهم يرونهم أنهم مخلدون في النار.

ومذاهب المرجئة في حكم أهل الكبائر ثلاثة:-

 1: أنهم لا يُعرّضون بشيء من العذاب، فيجزِمون ببراءة سائر أهل الكبائر من عذاب الله، وهو قول غلاة المرجئة ولم يُحفظ عن أحد من الأعيان المعروفين أنه كان ينتصر له.

2: قول الواقفة منهم، وهم الذين قالوا إن أهل الكبائر تحت المشيئة ولما كان هؤلاء يُنكرون حكمة الباري في أفعاله، فإنهم قالوا: إن أهل الكبائر تحت مشيئة الله، ومن حيث الإجمال لا إشكال في هذه الجملة، ولكن جهة الغلط عند واقفة المرجئة أنهم قالوا ذلك ثم وقفوا على هذا وقالوا: قد يُعذب سائرهم بالنار ثم يخرجون منها، وقد يُغفر لسائرهِم فلا يدخل النار أحد من أهل الكبائر، وقد يعذب الأكثر حسنات، ويغفر للأكثر سيئات، وهذا معنى قولهم واقفة، فجعلوا فرض العقل هو القائل بمسألة المشيئة، ولم يُراعوا أخبار الشارع، فضلا عن حكمة الشارع، وهو قول طوائف من المُرجئة وقول أبي الحسن الأشعري، وجمهور أصحابه.

3: قول مقتصدة المرجئة، وهؤلاء يوافِقون السلف في حكم أهل الكبائر، كقول بعض الفضلاء من أصحاب أبي الحسن الأشعري.

حكم قول السلف في أهل الكبائر، مبني على ثلاثة أصول:-

الأصل الأول: أنهم تحت المشيئة، الأصل الثاني: أنه لا يخلّد أحد منهم  في النار، ولا يخالف هاذين الأصلين قول الواقفة من المرجئة، وإنما يتميز مذهب السلف بالأصل الثالث وهو:الإيمان بأن طائفة من أهل الكبائر يُغفر لهم ولا يدخلون النار، بل تسقط عقوبتهم بأحد إحدى مسقطات العقوبة، ولا يكون المسقط لعقوبتهم العذاب في النار.

ولا دليل على أن من استوت حسناتهم مع سيئاتهم أنهم يوقفون عن الجنة ثم يدخلونها كما قال ابن القيم، استدلوا بآية الأعراف: {وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم..} ولا دليل على هذا، ولا تصحّ الآثار التي نقلت عن بعض الصحابة .

الثمرة التاسعة الثلاثون: (الكبيرة قد تُكفّّر بالأعمال الصالحة)

قول أن العمل الصالح يمتنع أن يُكفرَ كبيرة، وأن الكبيرة لا تُكفّر إلا بالتوبة فإن الأمر ليس كذلك، فترى أنه صلى الله عليه وسلم قد ذكر كلاما لا يُفقه منه إلا أن هذه الأعمال قد تُكفّر ما هو من الكبائر!

فهذه الأعمال التي ذكرها -صلى الله عليه وسلم- مُكفّرة يقعُ منها ما هوَ مكّفر في بعض المقامات لما هُوَ من الكبائر، ويكون هذا القول وسطٌ بين من يقول إنها تكفّر الكبائر مطلقا كما تُكفّر الصغائر، فإن هذا خلاف كثير من النّصوص وخلاف الإجماع.

والصلاة كما هو معلوم كسائر الأعمال الظاهرة، وحتى الأعمال الباطنة يقع فيها تفاضل فليس صلاة النبي-صلى الله عليه وسلم- كصلاة أصحابه، وليس صلاة الصحابة كصلاة من بعدهم، فهذا مقام يقعُ فيه اختلاف، فتكون الصلاة باعتبار أصل القيام بها مكفّرة لما بين ذلك إذا اجتنبت الكبائر، أي: أنّ الكبائر لا يلزم أن يتعلّقَ تكفيرُها بأي إقامة للصلاة، فهذه الأعمال باعتبار أصولها الأصل أنها تُكفر الصغائر ولكن من حقّقها على وجهٍ من التّمام وكانت حالهُ في الجملة على وجه من التمام وعلى قدر من الاستقامة، فلا يُمنع أن يكون هذا العمل سببا لتكفير الكبائر، وبإجماع السلف أن الله قد يغفر لأهل الكبائر بغير سبب من العبد، مغفرة محضة فمن باب أولى أن يغفر لهم بسبب الحسنات، قال تعالى: {إن الحسنات يُذهبن السيّئات}

الثمرة الأربعون: ( من أخص أصول السلف الاجتماع)

الأصول التي كانت مُستعملة في كلامِ أئمة السلف -رحمهم الله- وأن هذا المذهب الذي ذكره النبي وهو: أنه لا تزال طائفة من أمتى على الحق، فهم القائمون بالسنة من أصحاب السنة والجماعة، الذين يتّبعون طريقة السلف، فهذا المذهب لا شكَ أنّ على طالب العلم أن يُعنَى به، ولكن المقصود التنبيه على أنّ هذه العناية ينبغي أن لا تتحوّل إلى نوع من الاختصاص الذي ما كان السلف يجعلونه اختصاصا، والذي يُقصد به أنه من غيرِ الممكن شرعًا أن يقع قدرٌ من الخلاف بين السلفيين أنفسهم في مسائل قد لا تكون عند السلف من الأصول الموجبة للمخالفة، بل يجب أن يكون ثمة اتفاق، فإن هذا المذهب قائم على أصل عظيم وهو الاجتماع، ولهذا ينبغي حسم مادة الاختلاف قدر المُستطاع، إلا في المسائل التي هي خُلف بيْن السلف، وهذا الخلاف لا ينبغي أن يكون موجبًا للتفريق، أما الخلاف الذي يقع به التفريق و التضاد فإنّ هذا أصلا ليس موجودا في مذهب السلف رحمهم الله.


انتهى ولله الحمد..

خلاصة رواق الأدب

‏(خُلاصة رُوَاق الأدَب) استمتَعتُ بمُشاهدة حلَقات برنامج: رُواق الأدَب، للدكتور: عبد الرحمن قائد جزاهُ الله خيرا، وهو برنامج أدبيٌّ جميل، تن...